Monday, July 17, 2023

تفريج الكروب

تفريج الكروب

مصدران عظيمان لتفريج الكرب والمغفرة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد:

فمن مصادر الأجر العظيم، ومن دلالات سلامة الصدر ومحبة الخير للغير: عملان عظيمان وسهلان ويفرِّط فيهما كثير من الناس، ما هما؟!

الأول: التألم الشديد لأحوال إخوانك أهل المصائب والدعاء لهم بإلحاح وباستمرار، وكذلك عموم أهل الكرب؛ مثل: الأرامل، المطلقات، العوانس، الفقراء، المسحورين، الممسوسين، المصابين بأمراض خطيرة، المديونين.

وأعظم منهم مَن ابتُلي في دينه بالشرك أو البدع، أو ترك الصلاة، أو تعاطي المخدرات والفواحش، وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن أبي الدرداء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلا قال الملك: ولك بمثل)، وفي رواية أخرى عند مسلم أيضًا: (آمين ولك بمثل).

فأنت لا تخسر شيئًا، بل تكسب دعوة الملَك لك (ولك بمثل).

وإذا فرجت الكربة صار لك أجر عظيم آخر؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فرَّج عن مسلم كربة، فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)؛ متفق عليه.

فاحرصوا بارك الله فيكم على ملازمة الدعاء لأي مكروب تعرفونه أو لا تعرفونه، قريب لكم أم بعيد، يعلم بدعواتكم أو لا يعلم، ولكن الله سبحانه يعلم ويثيب.

والأفضل ألا تُخبره ولا غيره؛ حتى لا يدخل نيَّتك شيءٌ من المن أو الرياء، ولتبقى لك عملًا خالصًا.

وتذكَّر أن دعوة الملَك (ولك بمثل) ربما كانت سببًا عظيمًا في تفريج كربتك أنت بسبب تأمين الملك عليها، وقوله: (ولك بمثل).

ولا تنسَ عملًا صالحًا آخرَ عظيمَ الأجر والأثر، لا يستطيعه إلا موفق ذو حظٍّ عظيم من الله، ما هو؟!

هو العفو عمن ظلمك، ومن تختلف معهم في أي أمر، والدعاء لهم؛ قال سبحانه: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه ﴾ [الشورى: 40]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35].

وقِفْ عند آخر الآية، واسأل ربك سبحانه بإلحاح أن يجعلك من أهل الحظ العظيم.

قال سبحانه: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].

وتذكَّر أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن أهل مكة بعد فتحها مع قدرته على الانتقام منهم، وتذكر أن النبي يوسف عليه السلام عفا عن إخوانه مع قدرته على الانتقام منهم، وزاد على ذلك الدعاء لهم برغم شدة أذيَّتهم له، ولا تنسَ قصة أبي بكر رضي الله عنه عندما عفا عن مسطح بن أثاثة الذي خاض في عِرض ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ قال سبحانه: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22].

فبكى رضي الله عنه وقال: بلى أُحب أن يغفر الله لي، ثم عفا عن مسطح وأعاد له النفقة.

وأخذ العلماء منها فائدة عظيمة، وهي أن عفو المظلوم عمن ظلمه سبب لعفو الله عن المظلوم.

أسأل الله سبحانه أن يَهدينا لأحسن الأخلاق وللعفو وسلامة الصدر، وصلِّ اللهم على نبينا محمد ومَن والاه.

========

من قصص تفريج الكربات

سوف نذكر بعض صور تفريج الله تعالى للكربات عن أصحابها:

(1) انتصار المسلمين في غزوة بدر:

روى أحمد عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: ((اللهم أين ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة (الجماعة) من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدًا))، قال: فما زال يستغيث ربه عز وجل ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردَّاه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9]؛ فلما كان يومئذ والتقوا، فهزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلًا، وأسر منهم سبعون رجلًا؛ (حديث حسن؛ مسند أحمد ج1 - ص 334، حديث: 208).

قال الله تعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 9 - 13].

قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: قوله: (تستغيثون ربكم)؛ أي: تستجيرون به من عدوكم، وتدعونه للنصر عليهم.

قوله: (فاستجاب لكم)؛ أي: فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من الملائكة يردف بعضهم بعضًا، ويتلو بعضهم بعضًا؛ (تفسير الطبري ج11 - ص 50).

(2) نزول المطر يوم الجفاف:

روى الشيخان عن أنس بن مالك يذكر أن رجلًا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه (أي مواجهة) المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا فقال: يا رسول الله، هلكت المواشي، وانقطعت السبل؛ فادع الله يغيثنا قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: ((اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا))؛ قال أنس: والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعةً (قطعةً من السحاب)، ولا شيئًا وما بيننا وبين سلع (اسم جبل) من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس (أي مستديرة)، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت؛ (البخاري حديث 1013، مسلم حديث 897).

(3) توبة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك:

قال الله تعالى: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118].

قوله: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ﴾ [التوبة: 118].

هم الثلاثة الذين أخر الله تعالى ذكر قبول توبتهم، وهم: مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، قعدوا عن غزوة تبوك في جملةِ مَن قعد، كسلًا وميلًا إلى الدَّعة (أي الراحة) والحفظ، وطيب الثمار والظلال، لا شكًّا ونفاقًا، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري، كما فعل أبو لبابة وأصحابه (إعلانًا عن توبتهم)، وطائفة لم يفعلوا ذلك، وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء، وأرجى هؤلاء عن التوبة حتى نزلت الآية الآتية، وهي قوله: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 117] ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118]؛ (تفسير ابن كثير ج4 - ص: 210).

قوله تعالى: ﴿ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ [التوبة: 118]؛ أي: ضاقت عليهم الأرض بما اتسعت، غمًّا وندمًا؛ لأنهم كانوا مهجورين لا يعاملون ولا يكلمون، قوله: (وضاقت عليهم أنفسهم)؛ أي: ضاقت صدورهم بالهم والوحشة، وبما لقوه من الصحابة من الجفوة.

قوله: (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه)؛ أي: تيقنوا أن لا ملجأ يلجؤون إليه في الصفح عنهم، وقبول التوبة منهم إلا إلى الله تعالى؛ (تفسير القرطبي ج 8 - ص 287).

(4) جريج العابد:

روى الشيخان عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((كان جريج رجلًا عابدًا، فاتخذ صومعةً، فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج! فأتوه فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي، فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلِّي، فصلَّى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا؛ (البخاري حديث: 2482، مسلم حديث: 2550).

(5) روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أسلمت امرأة سوداء لبعض العرب، وكان لها حفش (خباء) في المسجد، قالت: فكانت تأتينا فتحدث عندنا، فإذا فرغت من حديثها قالت:

ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا *** ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني

فلما أكثرت قالت لها عائشة: وما يوم الوشاح؟ قالت: خرجت جويرية لبعض أهلي، وعليها وشاح من أدم، فسقط منها، فانحطت عليه الحديا، وهي تحسبه لحمًا، فأخذته فاتهموني به فعذبوني، حتى بلغ من أمري أنهم طلبوا في قُبُلي، فبينا هم حولي وأنا في كربي، إذ أقبلت الحديَّا حتى وازت برؤوسنا، ثم ألقته، فأخذوه، فقلت لهم: هذا الذي اتهمتموني به وأنا منه بريئة؛ (البخاري حديث: 3835).

(الوشاح) شيء ينسج من جلد عريضًا، ويرصع باللؤلؤ، وتشده المرأة بين عاتقها؛ (فتح الباري، لابن حجر العسقلاني ج1- ص 534).

(6) قال الحسن بن الحسن بن علي:

إن عبد الله بن جعفر، زوج ابنته فخلا بها، فقال: إذا نزل بك الموت، أو أمر من أمور الدنيا فظيع، فاستقبليه بأن تقولي: «لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين»، قال الحسن بن الحسن: فبعث إليَّ الحجاج، فقلتهن، فما قمت بين يديه، فقال: والله لقد أرسلت إليك، وأنا أريد أن أضرب عنقك، ولقد صرت وما من أهل بيت أحد أكرم عليَّ منك، سلني حاجتك؛ (مصنف ابن أبي شيبة ج6 - ص23، رقم: 29179).

(7) محمد بن إسماعيل البخاري:

قال محمد بن أبي حاتم: سمعت البخاري يقول: خرجت إلى آدم بن أبي إياس، فتخلفت عني نفقتي، حتى جعلت أتناول الحشيش، ولا أخبر بذلك أحدًا، فلما كان اليوم الثالث أتاني آت لم أعرفه، فناولني صرة دنانير، وقال: أنفق على نفسك؛ (سير أعلام النبلاء، للذهبي ج12 - ص448).

(8) منذر بن سعيد:

قال منذر بن سعيد: ذهبت إلى الحج مع قوم على أقدامنا، فانقطعنا واحتجنا إلى الماء في الحجاز، وتهنا في الصحراء، فأوينا إلى غار ننتظر الموت، فوضعت رأسي ملصقًا بالجبل، فإذا حجر كان في قبالته، فعالجته، فنزعته، فانبعث الماء، فشربنا وتزودنا؛ (سير أعلام النبلاء، للذهبي ج16 - ص175).

(9) قال أيوب بن معمر:

حاصر أمير المؤمنين هارون الرشيد حصنًا، فإذا سهم قد جاء ليس له نصل حتى وقع بين يديه، مكتوب عليه:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي *** وصار القار كاللبن الحليب

فقال أمير المؤمنين هارون الرشيد: اكتبوا عليه وردوه:

عسى الكرب الذي أمسيت فيه *** يكون وراءه فرج قريب

قال: فافتتح الحصن بعد ذلك بيومين، أو ثلاثة، فكان الرجل صاحب السهم ممن تخلص، وكان مأسورًا محبوسًا فيه سنتين؛ (الفرج بعد الشدة، لابن أبي الدنيا، ص77).

(10) صلة بن أشيم:

قال جعفر بن زيد العبدي: خرجنا غزاةً إلى كابل (عاصمة أفغانستان)، وفي الجيش صلة بن أشيم، فلما دنونا من أرض العدو، قال الأمير: لا يشذن (أي يبتعد) من العسكر أحد، فذهبت بغلة صلة بثقلها، فأخذ يصلي فقيل: إن الناس قد ذهبوا، فقال: إنما هما خفيفتان، قال: فدعا، ثم قال: اللهم إني أقسم عليك أن ترد عليَّ بغلتي وثقلها، قال: فجاءت حتى وقفت بين يديه؛ (مجابو الدعوة، لابن أبي الدنيا، ص49- رقم: 55).

(11) علي بن عقيل الحنبلي:

قال علي بن عقيل: حججت، فالتقطت (أي وجدت) عقد لؤلؤ في خيط أحمر، فإذا شيخ أعمى ينشده، ويبذل لملتقطه مائة دينار، فرددته عليه، فقال: خذ الدنانير فامتنعت، وخرجت إلى الشام، وزرت القدس، وقصدت بغداد، فأويت بحلب إلى مسجدٍ وأنا بردان جائع، فقدموني، فصليت بهم، فأطعموني، وكان أول رمضان، فقالوا: إمامنا توفي، فصلِّ بنا هذا الشهر، ففعلت فقالوا: لإمامنا بنت، فزوجت بها، فأقمت معها سنة، وأولدتها ولدًا ذكرًا، فمرضت في نفاسها، فتأملتها يومًا فإذا في عنقها العقد بعينه بخيطه الأحمر، فقلت لها: لهذا قصة، وحكيت لها، فبكت، وقالت: أنت هو والله، لقد كان أبي يبكي، ويقول: اللهم ارزق بنتي مثل الذي رد العقد علي، وقد استجاب الله منه، ثم ماتت، فأخذت العقد والميراث، وعدت إلى بغداد؛ (سير أعلام النبلاء، للذهبي، ج19 ص450: 449).

(12) قال الأصمعي: حدثني أبو عمرو بن العلاء، قال: هربت من الحَجَّاج، وكنت باليمين على سطحٍ يومًا، فسمعت قائلًا يقول:

ربما تكره النفوس من الأمـ *** ـر له فرجة كحل العقال

قال: فخرجت فإذا رجل يقول: مات الحجاج، فما أدري بأيهما كنت أشد فرحًا، بفرجه أو بموت الحجاج؟

(الفرج بعد الشدة، لابن أبي الدنيا، ص: 74، رقم: 77).

(13) قال أبو بلج الفزاري:

أتي الحجاج بن يوسف برجل كان جعل على نفسه إن ظفر به أن يقتله، فلما أدخل عليه تكلم بشيء، فخلى سبيله، فقيل له: أي شيء قلت؟ قال: قلت: «يا عزيز، يا حميد، يا ذا العرش المجيد، اصرف عني شر كل جبار عنيد»؛ (الفرج بعد الشدة، لابن أبي الدنيا، ص: 63، رقم: 59).

(14) قال عامر الشعبي، كنت جالسًا عند زياد بن أبيه، فجيء برجل إلى زياد يحمل ما يشك في قتله فحرك الرجل شفتيه بشيء ما ندري ما هو؟ فخلى سبيله، فقلت له: ما قلت؟ قال: قلت: اللهم رب إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ورب جبريل وميكائيل وإسرافيل، ومنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم، ادرأ عني شر زياد، فدرئ عنه شره؛ (الفرج بعد الشدة، لابن أبي الدنيا، ص: 68، رقم: 68).

======================

صور من تفريج كربات الأنبياء

شفاء أيوب صلى الله عليه وسلم من المرض الشديد:

قال جل شأنه: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84].

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يذكر تعالى عن أيوب عليه السلام ما كان أصابه من البلاء، في ماله وولده وجسده، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير، وأولاد كثيرة، ومنازل مرضية؛ فابتلي في ذلك كله، وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده، ولم يبقَ منه سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر بهما الله عز وجل، حتى عافه الجليس، وأفرد في ناحية من البلد، ولم يبق من الناس أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت تقوم بأمره؛ (تفسير ابن كثير ج5 - ص359).

نجاة يونس صلى الله عليه وسلم من بطن الحوت:

قال تعالى: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 87، 88].

قال الإمام الطبري رحمه الله: يقول جل ثناؤه: وكما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت في البحر إذ دعانا؛ كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا؛ (تفسير الطبري ج16 - ص385).

الله تعالى يهب لزكريا صلى الله عليه وسلم ولدًا:

قال سبحانه: ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 89، 90].

قال قتادة بن دعامة: قوله: ﴿ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾ [الأنبياء: 90]؛ أي: كانت عاقرًا، فجعلها الله ولودًا، ووهب له منها يحيى؛ (تفسير الطبري ج 16 - ص 388).

نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:

قال تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].

روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: حدثني أبو بكر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين قلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا، قال: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما))؛ (البخاري حديث4663).

رؤية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للمسجد الأقصى:

روى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت (أي أحزنت) كربةً ما كربت مثله قط))، قال: ((فرفعه الله لي (أي: بيت المقدس) أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي، أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة، قال قائل: يا محمد، هذا مالك صاحب النار، فسلم عليه، فالتفت إليه، فبدأني بالسلام))؛ (مسلم حديث: 172).

قوله: (لم أثبتها)؛ أي: لم أحفظها ولم أضبطها؛ لاشتغالي بأمور أهم منها؛ (مرقاة المفاتيح علي الهروي ج9- ص 3773).

=====================

وسائل تفريج الكربات

اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد (صاحب المال) منك الجد، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ أما بعد: فإن لتفريج الكربات وسائل، يمكن أن نوجزها في الأمور التالية:

(1) تقوى الله في السر والعلانية:

معنى التقوى:

تقوى الله: تعني الخوف من الله تعالى في السر والعلانية.

قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: تقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه؛ (جامع العلوم والحكم، لابن رجب، جـ 2، صـ468).

التقوى وصية رب العالمين:

جاءت كلمة التقوى بمشتقاتها المختلفة في القرآن الكريم مئتين وثماني وخمسين مرة؛ (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن، صـ758، صـ761).

الكثير من آيات القرآن الكريم تأمرنا بتقوى الله تعالى في السر والعلانية، وسوف نذكر بعضًا منها:

(1) قال جل شأنه: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].

(2) قال سبحانه: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر من صدق الله ورسوله ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [آل عمران: 102]؛ أي: خافوا الله وراقبوه بطاعته، واجتناب معاصيه ﴿ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [آل عمران: 102]؛ أي: حق خوفه، وهو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، ﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ ﴾ [آل عمران: 102] أيها المؤمنون بالله ورسوله، ﴿ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102] لربكم مذعنون له بالطاعة، مخلصون له الألوهية والعبادة؛ (تفسير الطبري، جـ5، صـ 636).

(3) قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ﴾ [النساء: 131].

قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله: الوصية بالتقوى هي سنة الله مع الأمم الماضية فلستم مخصوصين بهذه الوصية؛ (التفسير المحيط، أبو حيان الأندلسي جـ4، صـ 90).

(4) قال سبحانه: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه، سرًّا وعلانية، في جميع الأحوال، وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره وشرائعه وحدوده، وينظروا ما لهم وما عليهم، وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة، فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم، واهتموا بالمقام بها، اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها.

وقال رحمه الله: هذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقَّدها، فإن رأى زللًا تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرًا في أمر من أوامر الله، بذل جهده، واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه؛ (تفسير السعدي، صـ 853).

(5) قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3].

قال الإمام عبد الله بن عباس: قوله: (ومن يتق الله يجعل له مخرجًا)؛ أي: ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة؛ (تفسير ابن كثير، جـ8، صـ 146).

قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: قوله: (ويرزقه من حيث لا يحتسب)؛ أي: يسبب له أسباب الرزق من حيث لا يشعر، ولا يعلم؛ (تفسير الطبري، جـ23، صـ 42).

(2) المحافظة على إقامة الصلاة:

إن محافظة المسلم على إقامة الصلاة من وسائل تفريج الكربات وقضاء الحوائج.

قال الله تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45].

قال محمد بن نصر المروزي رحمه الله: أمر الله عباده أن يفزعوا إلى الصلاة، والاستعانة بالصلاة على كل أمرهم من أمر دنياهم وآخرتهم، ولم يخص بالاستعانة بها شيئًا دون شيء؛ (تعظيم قدر الصلاة للمروزي جـ1 صـ218).

لقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا نزل به كرب، استعان بالصلاة، رجاء أن يكشف الله تعالى عنه هذا الكرب.

روى أبو داود عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه (أصابه أو نزل به) أمر (همٌّ أو غمٌّ) صلى؛ (حديث حسن؛ صحيح أبي داود، للألباني، حديث 1171).

قوله: (صلَّى)؛ أي: تسهيلًا للأمر، وامتثالًا للأمر الذي في قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 45]؛ أي: بالصبر على البلايا والالتجاء إلى الصلاة؛ (مرقاة المفاتيح، علي الهروي، جـ3، صـ 990).

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي ويدعو حتى أصبح»؛ (تعظيم قدر الصلاة، للمروزي، جـ1، صـ 231، رقم 213).

روى مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين)، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: (مالك يوم الدين) قال: مجَّدني عبدي، وقال مرةً: فوَّض إليَّ عبدي، فإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين)، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل))؛ (مسلم حديث 395).

قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء: المراد بالصلاة هنا الفاتحة؛ (مسلم بشرح النووي، جـ 4، صـ103).

(3) التوبة والاستغفار:

التوبة والمداومة على الاستغفار من أسباب تفريج الكربات:

قال الله تعالى: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ * يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 50 - 52]، قال سبحانه حكاية عن نوح صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴾ [نوح: 10]، ﴿ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 11، 12]، قوله تعالى: ﴿ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾ [نوح: 11].

قال الإمام القرطبي رحمه الله: هذه الآية دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار؛ (تفسير القرطبي، جـ18، صـ 302).

وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدر لكم الضرع، وأعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخلَّلها بالأنهار الجارية بينها؛ (تفسير ابن كثير، جـ8، صـ233).

قال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن البصري الجدب (قلة المطر)، فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدًا، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئًا، إن الله تعالى يقول في سورة نوح: ﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} ﴾ [نوح:10، 11]؛ (تفسير القرطبي، جـ18، صـ 302)، (فتح الباري، للعسقلاني، جـ11، صـ98).

(4) الدعاء:

معنى الدعاء:

الدعاء: هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله، والاستكانة له؛ (فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، جـ11، صـ98).

الدعاء وصية رب العالمين:

حثَّنا الله تعالى على الدعاء في آيات كثيرة من كتابه العزيز:

(1) قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].

قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: وإذا سألك يا محمد عبادي عني أين أنا؟ فإني قريب منهم أسمع دعاءهم، وأجيب دعوة الداعي منهم؛ (تفسير الطبري، جـ3، صـ 222).

(2) قال سبحانه: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62].

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ينبه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد، المرجو عند النوازل، كما قال: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء: 67]، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [النحل: 53]، وهكذا قال هاهنا: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾ [النمل: 62]؛ أي: من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه؛ (تفسير ابن كثير، جـ6، صـ 203).

قال جمال الدين القاسمي رحمه الله: قوله: (المضطر) هو الذي أحوجه مرض، أو فقر، أو نازلة من نوازل الدهر، إلى التضرُّع إلى الله تعالى؛ (تفسير القاسمي، جـ7، صـ 500).

(3) قال جل شأنه: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: هذا من فضله تبارك وتعالى، وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفَّل لهم بالإجابة؛ (تفسير ابن كثير، جـ7، صـ 153).

نبينا صلى الله عليه وسلم يحثُّنا على الدعاء:

(1) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلثُ الليل الآخر يقول: مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له))؛ (البخاري حديث 7494).

(2) روى أبو داود عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم تبارك وتعالى حَيِيٌّ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردَّهما صفرًا (أي خاليتين)؛ (حديث صحيح، صحيح أبي داود، للألباني حديث: 1323).

(3) روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ))؛ (حديث صحيح، صحيح الترمذي، للألباني، حديث: 2766).

قوله: ((وأنتم موقنون بالإجابة)) أي: وأنتم معتقدون أن الله لا يخيِّبكم لسعة كرمه، وكمال قدرته، وإحاطة علمه، لتحقق صدق الرجاء وخلوص الدعاء؛ لأن الداعي ما لم يكن رجاؤه واثقًا لم يكن دعاؤه صادقًا.

قوله: (قلب غافل لاه)؛ أي: قلب معرِض عن الله تعالى؛ (مرقاة المفاتيح، علي الهروي، جـ4، صـ 1531).

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلَّف أثره عنه؛ إما لضعفه في نفسه، بأن يكون دعاءً لا يحبُّه الله، لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًّا، فإن السهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا، وإما لحصول المانع من الإجابة: من أكْلِ الحرام، والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والشهوة واللهو، وغلبتها عليها؛ (الجواب الكافي، لابن القيم، صـ9).

أدعية تفريج الكربات:

سوف نذكر بعضَ أدعية نبينا صلى الله عليه وسلم التي تساعد في تفريج كربات المؤمن، وتقضي حوائجه بإذن الله تعالى.

(1) روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، فإنه لم يدْعُ بها رجلٌ مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له))؛ (حديث صحيح، صحيح الترمذي، للألباني، حديث: 2785).

(2) روى الشيخان عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض، ورب العرش الكريم))؛ (البخاري حديث 6346، مسلم حديث 2730).

(3) روى البخاري عن أنس بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال))؛ (البخاري حديث: 6369).

(4) روى أحمد عن علي بن أبي طالب، قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بي كرب أن أقول: ((لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله، وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين))؛ (حديث صحيح، مسند أحمد، جـ2، صـ 109، حديث: 701).

(5) روى أحمد عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما قال عبد قط إذا أصابه همٌّ وحزن: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل همَّه، وأبدله مكان حزنه فرحًا، قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قال: أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن))؛ (حديث صحيح، صحيح الكلم الطيب، للألباني صـ 49).

(6) روى أبو داود عن أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت))؛ (حديث حسن؛ صحيح أبي داود، للألباني، حديث: 4246).

(7) روى الترمذي عن أنس بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال: ((يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث))؛ (حديث حسن؛ صحيح الترمذي، للألباني، حديث: 2796).

(8) روى أبو داود عن أسماء بنت عميس، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أعلِّمك كلمات تقولينهن عند الكرب؟ ألله ألله ربي، لا أشرك به شيئًا))؛ (حديث صحيح، صحيح أبي داود، للألباني، حديث: 1349).

(5) التوكل على الله تعالى:

معنى التوكل:

التوكل في اللغة: معناه إظهار العجز والاعتماد على الغير؛ (تفسير القرطبي، جـ4، صـ 189).

حقيقة التوكل:

التوكل: هو صدق اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع المسلم في أمور دينه ودنياه، مع الأخذ بالأسباب المشروعة.

التوكل على الله من أعظم الأسباب التي تطلب بها تفريج الكربات؛ فإن الله تعالى يكفي من توكَّل عليه.

قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله قوله: (فهو حسبه)؛ أي: كفاه الله تعالى ما أهمَّه في دينه ودنياه؛ (تفسير القرطبي، جـ18، صـ161).

أمرنا الله تعالى بالتوكُّل والاعتماد عليه سبحانه في جميع أمورنا.

(1) قال سبحانه: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122].

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: من توكَّل على الله كفاه الله ما أهمه، وحفظه مِن شر الناس وعصمه؛ (تفسير ابن كثير، جـ3، صـ 64).

(2) قال جل شأنه: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58].

قال الإمام الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: وتوكَّل يا محمد على الذي له الحياة الدائمة التي لا موت معها، فثق به في أمر ربك، وفوِّض إليه، واستسلم له، واصبر على ما نابك فيه؛ (تفسير الطبري، جـ17، صـ 479).

(3) قال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173] ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 174].

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: قوله: ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾ [آل عمران: 174]؛ أي: لمَّا توكَّلوا على الله كفاهم ما أهمَّهم، ورد عنهم بأس مَن أراد كيدهم، فرجعوا إلى بلدهم ﴿ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾ [آل عمران: 174] مما أضمر لهم عدوهم ﴿ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 174]؛ (تفسير ابن كثير، جـ2، صـ 171).

(6) الإكثار من طاعة الله في الرخاء:

إن الإكثار من طاعة الله تعالى والإكثار من ذكره في وقت الصحة والرخاء - من أسباب تفريج كربات المؤمن.

روى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا غلام، ألا أعلِّمك كلمات ينفعك الله بهن؟ فقلت: بلى؛ فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء، يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضرُّوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا))؛ (حديث صحيح؛ مسند أحمد، جـ5، صـ 18، حديث: 2803).

قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: ((تعرَّف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة))؛ يعني أن العبد إذا اتقى الله، وحفظ حدوده، وراعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرَّف بذلك إلى الله، وصار بينه وبين ربه معرفةٌ خاصة، فعرفه ربه في الشدة، ورعى له تعرفه إليه في الرخاء، فنجَّاه من الشدائد بهذه المعرفة، وهذه معرفة خاصة تقتضي قُرب العبدِ من ربه، ومحبته له، وإجابته لدعائه؛ (جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، صـ: 189).

قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: من لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب، واليسر بالعسر: أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى، وحصل للعبد الإياس من كشفه من جهة المخلوقين، تعلَّق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكُّل على الله، وهو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإن الله يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]؛ (جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، صـ: 197).

روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء؛ (حديث حسن؛ صحيح الترمذي، للألباني، حديث 2693).

قوله: (من سره)؛ أي: أعجبه، وفرح قلبه وجعله مسرورًا.

قوله: (الشدائد)؛ جمع الشديدة، وهي الحادثة الشاقَّة.

قوله: (الكرب)؛ أي: الغم الذي يأخذ بالنفس.

قوله: (في الرخاء)؛ أي: في حالة السعة والصحة، والفراغ والعافية؛ (مرقاة المفاتيح، علي الهروي، جـ4، صـ1531).

قال أبو الدرداء: ادع الله في يوم سرَّائك لعله أن يستجيب لك في يوم ضرَّائك؛ (جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، صـ: 190).

قال رجل لأبي الدرداء: أوصني، فقال: اذكر الله في السراء يذكرك الله عز وجل في الضرَّاء؛ (جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، صـ: 190).

قال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء، يذكركم في الشدة، إن يونس عليه السلام كان يذكر الله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت، قال الله عز وجل: ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 143، 144]، وإن فرعون كان طاغيًا ناسيًا لذكر الله، فلما أدركه الغرق، قال: آمنت، فقال الله تعالى: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 91]؛ (جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، صـ: 190).

قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: أعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا الموت، وما بعده أشد منه إن لم يكن مصير العبد إلى خير؛ فالواجب على المؤمن الاستعداد للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة، قال الله عز وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الحشر: 18، 19]؛ فمَن ذَكَر الله في حال صحته ورخائه، واستعدَّ حينئذ للقاء الله بالموت وما بعده، ذكره الله عند هذه الشدائد، فكان معه فيها، ولطف به، وأعانه، وتولَّاه، وثبَّته على التوحيد، فلقيه وهو عنه راضٍ، ومن نسي الله في حال صحته ورخائه، ولم يستعد حينئذ للقائه، نسيه الله في هذه الشدائد، بمعنى أنه أعرض عنه، وأهمله فإذا نزل الموت بالمؤمن المستعد له، أحسن الظن بربه، وجاءته البشرى من الله، فأحبَّ لقاء الله، وأحبَّ الله لقاءه، والفاجر بعكس ذلك، وحينئذ يفرح المؤمن، ويستبشر بما قدمه مما هو قادم عليه، ويندم المفرِّط، ويقول: ﴿ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 56]؛ (جامع العلوم والحكم؛ لابن رجب الحنبلي، صـ: 190).

(7) الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

إن الصلاة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من وسائل تفريج الهموم والأحزان.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وصيةُ ربِّ العالمين:

قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: المقصود من هذه الآية: أن الله سبحانه أخبر عبادَه بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلِّي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه، ليجتمع الثناءُ عليه من أهل العالَمين: العلوي والسفلي جميعًا؛ (تفسير ابن كثير جـ3، ص514).

معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

قال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله: معنى صلاة الله على نبيِّه ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك له من الله تعالى، والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة؛ (فتح الباري، للعسقلاني، جـ11، صـ 16).

روى الترمذي عن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: ((يا أيها الناس، اذكروا الله، اذكروا الله؛ جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه))، قال أُبَي: قلت يا رسول الله، إني أُكثر الصلاةَ عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ((ما شئت))، قال: قلت: الربع، قال: ((ما شئت، فإن زدت فهو خير لك))، قلت: النصف، قال: ((ما شئت، فإن زدت فهو خير لك))، قال: قلت: فالثلثين، قال: ((ما شئت فإن زدت فهو خير لك))، قلت: أجعل لك صلاتي كلَّها، قال: ((إذًا تُكفى همَّك، ويغفر لك ذنبك))؛ (حديث حسن؛ صحيح الترمذي، للألباني، حديث: 1999).

قال الإمام المنذري رحمه الله: قوله: (فكم أجعل لك من صلاتي) معناه: إني أكثر الدعاء، فكم أجعل لك من دعائي صلاةً عليك؟ (الترغيب والترهيب للمنذري جـ2، صـ389).

قال المباركفوري رحمه الله قوله: (أجعل لك صلاتي كلها)؛ أي: أصرف بصلاتي عليك جميع الزمن الذي كنت أدعو فيه لنفسي.

قوله: ((إذًا تُكفى همك))؛ يعني إذا صرفت جميع أزمان دعائك في الصلاة عليَّ أعطيت خيري الدنيا والآخرة؛ (تحفة الأحوذي، المباركفوري جـ7، صـ129: 130).

قال الأبهري رحمه الله: قوله: ((إذًا تُكفى همك))؛ أي: إذا صرفت جميع زمان دعائك في الصلاة عليَّ كفيت ما يهمك؛ (مرقاة المفاتيح، علي الهروي جـ2، صـ 746).

قال الإمام ابن القيم رحمه الله عند الحديث عن فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سبب لكفاية الله تعالى العبدَ ما أهمَّه؛ (جلاء الأفهام، لابن القيم، صـ445).

(8) التوسل إلى الله بالعمل الصالح:

روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت صخرةٌ من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق (أشرب اللبن عند العشاء) قبلهما أهلًا، ولا مالًا فنأى (بعُد) بي في طلب شيء يومًا، فلم أرح (أرجع) عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا، فلبثت والقدح على يدي، أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك، ففرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج))، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عمٍّ، كانت أحبَّ الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني حتى ألمَّت بها سنةٌ من السنين، فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم (أي إنها كانت بكرًا) إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفتُ عنها وهي أحبُّ الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها))، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أُجَراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمَّرت أجرَه حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أدِّ إليَّ أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون))؛ (البخاري حديث 2272، مسلم حديث 2743).

قال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله: في هذا الحديث استحبابُ الدعاء في الكرب والتقرُّب إلى الله تعالى بذكر صالح العمل واستنجاز وعده بسؤاله؛ (فتح الباري، لابن حجر العسقلاني جـ6 صـ 509).

قال الإمام الألباني رحمه الله: دعا هؤلاء الثلاثة ربَّهم سبحانه متوسِّلين إليه بهذه الأعمال الصالحة، والمواقف الكريمة، معلنين أنهم إنما فعلوها ابتغاء رضوان الله تعالى وحده، لم يريدوا بها دنيا قريبة، أو مصلحة عاجلة، أو مالًا، ورجوا الله جل شأنه أن يفرِّج عنهم ضائقتهم، ويخلصهم من محنتهم، فاستجاب سبحانه دعاءهم، وكشف كربهم، وكان عند حسن ظنهم به، فخرق لهم العادات، وأكرمهم بتلك الكرامة الظاهرة، فأزاح الصخرة بالتدُّرج على مراحلَ ثلاث، كلما دعا واحد منهم تنفرج بعض الانفراج؛ حتى انفرجت تمامًا مع آخر دعوة الثالث بعد أن كانوا في موت محقَّق؛ (التوسُّل، للألباني صـ37).

أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين

No comments:

Post a Comment