Sunday, July 23, 2023

كتاب أخبار الماضين من بني إسرائيل وغيرهم و خبر ذي القرنين ويأجوج ومأجوج



 

كتاب أخبار الماضين من بني إسرائيل وغيرهم

من بني إسرائيل وغيرهم، إلى آخر زمن الفترة سوى أيام العرب وجاهليتهم، فإنا سنورد ذلك بعد فراغنا من هذا الفصل إن شاء الله تعالى.

قال الله تعالى: { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا } [طه: 99]

وقال: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } [يوسف: 3] .

====

خبر ذي القرنين

قال تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا * فَأَتْبَعَ سَبَبا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْما قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابا نُكْرا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْما لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْما * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّا } . [الكهف: 83-98] .

ذكر الله تعالى ذا القرنين هذا، وأثنى عليه بالعدل، وأنه بلغ المشارق والمغارب، وملك الأقاليم وقهر أهلها، وسار فيهم بالمعدلة التامة، والسلطان المؤيد، المظفر، المنصور، القاهر، المقسط، والصحيح: أنه كان ملكا من الملوك العادلين، وقيل: كان نبيا، وقيل: رسولا، وأغرب من قال: ملكا من الملائكة.

وقد حكى هذا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فإنه سمع رجلا يقول لآخر: يا ذا القرنين، فقال: مه ما كفاكم أن تتسموا بأسماء الأنبياء، حتى تسميتم بأسماء الملائكة. ذكره السهيلي.

وقد روى وكيع عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: كان ذو القرنين نبيا.

وروى الحافظ ابن عساكر من حديث أبي محمد بن أبي نصر، عن أبي إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن أبي ذؤيب، حدثنا محمد بن حماد، أنبأنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذؤيب، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « لا أدري أتبع كان لعينا أم لا، ولا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا، ولا أدري ذو القرنين كان نبيا أم لا ». وهذا غريب من هذا الوجه.

وقال إسحاق بن بشر: عن عثمان بن الساج، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان ذو القرنين ملكا صالحا، رضي الله عمله، وأثنى عليه في كتابه، وكان منصورا، وكان الخضر وزيره، وذكر أن الخضر عليه السلام كان على مقدمة جيشه، وكان عنده بمنزلة المشاور، الذي هو من الملك بمنزلة الوزير في إصلاح الناس اليوم.

وقد ذكر الأزرقي وغيره أن ذا القرنين أسلم على يدي إبراهيم الخليل، وطاف معه بالكعبة المكرمة هو وإسماعيل عليه السلام.

وروى عن عبيد بن عمير، وابنه عبد الله وغيرهما، أن ذا القرنين حج ماشيا، وأن إبراهيم لما سمع بقدومه تلقاه، ودعا له ورضاه، وأن الله سخر لذي القرنين السحاب يحمله حيث أراد، والله اعلم.

واختلفوا في السبب الذي سمى به ذا القرنين فقيل: لأنه كان له في رأسه شبه القرنين، قال وهب بن منبه: كان له قرنان من نحاس في رأسه، وهذا ضعيف.

وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك فارس والروم، وقيل: لأنه بلغ قرني الشمس غربا وشرقا، وملك ما بينهما من الأرض، وهذا أشبه من غيره، وهو قول الزهري. وقال الحسن البصري: كانت له غديرتان من شعر يطافهما، فسمي ذي القرنين.

وقال إسحاق بن بشر، عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه قال: دعا ملكا جبارا إلى الله فضربه على قرنه فكسره ورضه، ثم دعاه فدق قرنه الثاني فكسره، فسمي ذي القرنين.

وروى الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل، عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن ذي القرنين، فقال: كان عبدا ناصح الله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الآخر، فمات فسمي ذا القرنين.

وهكذا رواه شعبة القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن علي به. وفي بعض الروايات عن أبي الطفيل عن علي قال: لم يكن نبيا ولا رسولا ولا ملكا، ولكن كان عبدا صالحا.

وقد اختلف في اسمه: فروى الزبير بن بكار عن ابن عباس: كان اسمه عبد الله بن الضحاك بن معد، وقيل: مصعب بن عبد الله بن قنان بن منصور بن عبد الله بن الأزد بن عون بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن قحطان.

وقد جاء في حديث: أنه كان من حمير، وأمه رومية، وأنه كان يقال له ابن الفيلسوف لعقله. وقد أنشد بعض الحميريين في ذلك شعرا يفتخر بكونه أحد أجداده، فقال:

قد كان ذو القرنين جدي مسلما * ملكا تدين له الملوك وتحشد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي * أسباب أمر من حكيم مرشد

فرأى مغيب الشمس عند غروبها * في عين ذي خلب وثأط حرمد

من بعده بلقيس كانت عمتي * ملكتهم حتى أتاها الهدهد

قال السهيلي: وقيل: كان اسمه مرزبان بن مرزبة. ذكره ابن هشام. وذكر في موضع آخر أن اسمه الصعب بن ذي مرائد، وهو أول التبابعة، وهو الذي حكم لإبراهيم في بئر السبع.

وقيل: إنه أفريدون بن أسفيان الذي قتل الضحاك، وفي خطبة قس: يا معشر إياد بن الصعب ذو القرنين، ملك الخافقين، وأذل الثقلين، وعمر ألفين، ثم كان كلحظة عين، ثم أنشد ابن هشام للأعشى:

والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا * بالجنو في جدث أشم مقيما

وذكر الدارقطني، وابن ماكولا أن اسمه هرمس، ويقال: هرويس بن قيطون بن رومى بن لنطى بن كشلوخين بن يونان بن يافث بن نوح، فالله اعلم.

وقال إسحاق بن بشر: عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال اسكندر: هو ذو القرنين، وأبوه أول القياصرة، وكان من ولد سام بن نوح عليه السلام، فأما ذو القرنين الثاني فهو: اسكندر بن فيلبس بن مصريم بن هرمس بن ميطون بن رومي بن لنطي بن يونان بن يافث بن يونة بن شرخون بن رومة بن شرفط بن توفيل بن رومي بن الأصفر بن يقز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، الخليل كذا نسبه الحافظ ابن عساكر في تاريخه.

المقدوني اليوناني المصري باني إسكندرية، الذي يؤرخ بأيامه الروم، وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل، كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة، وكان أرطاطاليس الفيلسوف وزيره، وهو الذي قتل دارا بن دارا، وأذل ملوك الفرس، وأوطأ أرضهم.

وإنما نبهنا عليه لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن، هو الذي كان أرطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير، وفساد عريض طويل كثير، فإن الأول: كان عبدا مؤمنا صالحا وملكا عادلا، وكان وزيره الخضر، وقد كان نبيا على ما قررناه قبل هذا.

وأما الثاني: فكان مشركا، وكان وزيره فيلسوفا، وقد كان بين زمانهما أزيد من ألفي سنة، فأين هذا من هذا لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور.

فقوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ } كان سببه أن قريشا سألوا اليهود عن شيء يمتحنون به علم رسول الله ﷺ، فقالوا لهم: سلوه عن رجل طوَّاف في الأرض، وعن فتية خرجوا لا يدري ما فعلوا، فأنزل الله تعالى قصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين، ولهذا قال: { قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرا } أي: من خبره وشأنه.

{ ذِكْرا } أي: خبرا نافعا كافيا في تعريف أمره، وشرح حاله، فقال: { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا } أي: وسعنا مملكته في البلاد، وأعطيناه من آلات المملكة ما يستعين به على تحصيل ما يحاوله من المهمات العظيمة، والمقاصد الجسيمة.

قال قتيبة: عن أبي عوانة، عن سماك، عن حبيب بن حماد، قال: كنت عند علي بن أبي طالب، وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب؟

فقال له: سخر له السحاب، ومدت له الأسباب، وبسط له في النور، فكان الليل و النهار عليه سواء.

وقال: أزيدك، فسكت الرجل، وسكت علي رضي الله عنه.

وعن أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن عبد الله الوادعي، سمعت معاوية يقول: ملك الأرض أربعة: سليمان بن داود النبي عليهما السلام، وذو القرنين، ورجل من أهل حلوان، ورجل آخر.

فقيل له الخضر؟

قال: لا.

وقال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن الضحاك، عن أبيه، عن سفيان الثوري قال: بلغني أنه ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان وكافران، سليمان النبي، وذو القرنين، و نمرود، وبخت نصر. وهكذا قال سعيد بن بشير سواء.

وقال إسحاق بن بشر: عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن قال: كان ذو القرنين ملك بعد النمرود، وكان من قصته أنه كان رجلا مسلما صالحا، أتى المشرق والمغرب، مدَّ الله له في الأجل، ونصره حتى قهر البلاد، واحتوى على الأموال، وفتح المدائن، وقتل الرجال، وجال في البلاد والقلاع، فسار حتى أتى المشرق والمغرب.

فذلك قول الله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرا } أي: خبرا { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا } أي: علما بطلب أسباب المنازل.

قال إسحاق: وزعم مقاتل أنه كان يفتح المدائن ويجمع الكنوز، فمن اتبعه على دينه وتابعه عليه وإلا قتله.

وقال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعبيد بن يعلى، والسدي، وقتادة، والضحاك: { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا } يعني: علما.

وقال قتادة ومطر الوراق: معالم الأرض ومنازلها وأعلامها وآثارها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني تعليم الألسنة، كان لا يغزو قوما إلا حدثهم بلغتهم.

والصحيح أنه يعم كل سبب يتوصل به إلى نيل مقصوده في المملكة وغيرها، فإنه كان يأخذ من كل إقليم من الأمتعة والمطاعم والزاد ما يكفيه، ويعينه على أهل الإقليم الآخر.

وذكر بعض أهل الكتاب أنه مكث ألفا وستمائة سنة، يجوب الأرض ويدعو أهلها إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي كل هذه المدة نظر، والله أعلم.

وقد روى البيهقي، وابن عساكر حديثا متعلقا بقوله: { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا } مطولا جدا، وهو منكر جدا، وفي إسناده محمد بن يونس الكديمي، وهو متهم، فلهذا لم نكتبه لسقوطه عندنا، والله أعلم.

وقوله: { فَأَتْبَعَ سَبَبا } أي: طريقا { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } يعني من الأرض انتهى إلى حيث لا يمكن أحدا أن يجاوزه، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له أوقيانوس، الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات، التي هي مبدأ الأطوال على أحد قولي أرباب الهيئة، والثاني من ساحل هذا البحر كما قدمنا، وعنده شاهد مغيب الشمس فيما رآه بالنسبة إلى مشاهدته.

{ تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } والمراد بها: البحر في نظره، فإن من كان في البحر أو على ساحله يرى الشمس كأنها تطلع من البحر وتغرب فيه، ولهذا قال: { وَجَدَهَا } أي: في نظره، ولم يقل: فإذا هي تغرب في عين حمئة أي: ذات حمأة.

قال كعب الأحبار: وهو الطين الأسود، وقرأه بعضهم: حامية، فقيل: يرجع إلى الأول، وقيل: من الحرارة، وذلك من شدة المقابلة لوهج ضوء الشمس وشعاعها.

وقد روى الإمام أحمد عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب: حدثني مولى لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله قال: نظر رسول الله ﷺ إلى الشمس حين غابت فقال: « في نار الله الحامية، لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض ».

فيه غرابة، وفيه رجل مبهم لم يسم، ورفعه فيه نظر، وقد يكون موقوفا من كلام عبد الله بن عمرو، فإنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب المتقدمين، فكان يحدث منها، والله أعلم.

ومن زعم من القصَّاص أن ذا القرنين جاوز مغرب الشمس، وصار يمشي بجيوشه في ظلمات مددا طويلة، فقد أخطأوا بعد النجعة، وقال ما يخالف العقل والنقل.

======

بيان طلب ذي القرنين عين الحياة

وقد ذكر ابن عساكر من طريق وكيع، عن أبيه، عن معتمر بن سليمان، عن أبي جعفر الباقر، عن أبيه زين العابدين خبرا مطولا جدا فيه: أن ذا القرنين كان له صاحب من الملائكة يقال له رناقيل، فسأله ذو القرنين هل تعلم في الأرض عينا يقال لها عين الحياة؟

فذكر له صفة مكانها، فذهب ذو القرنين في طلبها، وجعل الخضر على مقدمته، فانتهى الخضر إليها في واد في أرض الظلمات، فشرب منها ولم يهتد ذو القرنين إليها.

وذكر اجتماع ذي القرنين ببعض الملائكة في قصر هناك، وأنه أعطاه حجرا، فلما رجع إلى جيشه سأل العلماء عنه، فوضعوه في كفة ميزان وجعلوا في مقابلته ألف حجر مثله فوزنها، حتى سأل الخضر فوضع قباله حجرا وجعل عليه حفنة من تراب فرجح به.

وقال: هذا مثل ابن آدم لا يشبع حتى يوارى بالتراب، فسجد له العلماء تكريما له وإعظاما، والله أعلم.

ثم ذكر تعالى أنه حكم في أهل تلك الناحية: { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابا نُكْرا } [الكهف: 86- 87] أي: فيجتمع عليه عذاب الدنيا والآخرة، وبدأ بعذاب الدنيا لأنه أزجر عند الكافر.

{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرا } [الكهف: 89] فبدأ بالأهم وهو ثواب الآخرة، وعطف عليه الإحسان منه إليه، وهذا هو العدل والعلم والإيمان.

قال الله تعالى: { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبا } أي: سلك طريقا راجعا من المغرب إلى المشرق، فيقال: إنه رجع في ثنتي عشر سنة { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرا }

أي: ليس لهم بيوت ولا أكنان يستترون بها من حر الشمس، قال كثير من العلماء: ولكن كانوا يأوون إذا اشتد عليهم الحر إلى أسراب قد اتخذوها في الأرض شبه القبور.

قال الله تعالى: { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرا } أي: ونحن نعلم ما هو عليه ونحفظه ونكلؤه بحراستنا في مسيره ذلك كله من مغارب الأرض إلى مشارقها.

وقد روي عن عبيد بن عمير، وابنه عبد الله، وغيرهما من السلف: أن ذا القرنين حج ماشيا، فلما سمع إبراهيم الخليل بقدومه تلقاه، فلما اجتمعا دعا له الخليل ووصاه بوصايا، ويقال: إنه جيء بفرس ليركبها فقال: لا أركب في بلد فيه الخليل، فسخر الله له السحاب وبشره إبراهيم بذلك، فكانت تحمله إذا أراد.

وقوله تعالى: { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْما لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا } [الكهف: 92-93] يعني غشما. يقال: إنهم هم الترك أبناء عم يأجوج ومأجوج. فذكروا له أن هاتين القبيلتين قد تعدوا عليهم وأفسدوا في بلادهم، وقطعوا السبل عليهم، وبذلوا له حملا وهو الخراج، على أن يقيم بينهم وبينهم حاجزا يمنعهم من الوصول إليهم، فامتنع من أخذ الخراج اكتفاء بما أعطاه الله من الأموال الجزيلة.

{ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } ثم طلب منهم أن يجمعوا له رجالا وآلات ليبني بينهم وبينهم سدا، وهو الردم بين الجبلين وكانوا لا يستطيعون الخروج إليهم إلا من بينهما، وبقية ذلك بحار مغرقة وجبال شاهقة، فبناه كما قال تعالى من الحديد والقطر وهو النحاس المذاب، وقيل: الرصاص. والصحيح: الأول.

فجعل بدل اللبن حديدا، وبدل الطين نحاسا، ولهذا قال تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } أي: يعلوا عليه بسلالم ولا غيرها { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا } أي: بمعاول ولا فؤوس ولا غيرها. فقابل الأسهل بالأسهل والأشد بالأشد.

{ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } أي: قدر الله وجوده ليكون رحمة منه بعباده أن يمنع بسببه عدوان هؤلاء القوم على من جاورهم في تلك المحلة.

{ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي } أي: الوقت الذي قدر خروجهم على الناس في آخر الزمان { جَعَلَهُ دَكَّاءَ } أي: مساويا للأرض ولا بد من كون هذا. ولهذا قال: { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّا } .

كما قال تعالى: { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ... } الآية [الأنبياء: 96-97] .

ولهذا قال ههنا: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } يعني: يوم فتح السد على الصحيح.

{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعا } وقد أوردنا الأحاديث المروية في خروج يأجوج ومأجوج في التفسير، وسنوردها إن شاء الله في كتاب الفتن والملاحم من كتابنا هذا إذا انتهينا إليه، بحول الله وقوته وحسن توفيقه ومعونته وهدايته.

قال أبو داود الطيالسي، عن الثوري: بلغنا أن أول من صافح ذو القرنين، وروي عن كعب الأحبار أنه قال لمعاوية: إن ذا القرنين لما حضرته الوفاة أوصى أمه إذا هو مات أن تصنع طعاما وتجمع نساء أهل المدينة، وتضعه بين أيديهن، وتأذن لهن فيه إلا من كانت ثكلى فلا تأكل منه شيئا، فلما فعلت ذلك لم تضع واحدة منهن يدها فيه، فقالت لهن: سبحان الله كلكن ثكلى؟ فقلن: إي والله، ما منا إلا من أثكلت، فكان ذلك تسلية لأمه.

وذكر إسحاق بن بشر، عن عبد الله بن زياد، عن بعض أهل الكتاب وصية ذي القرنين وموعظة أمه موعظة بليغة طويلة فيها حكم وأمور نافعة، وأنه مات وعمره ثلاثة آلاف سنة، وهذا غريب.

قال ابن عساكر: وبلغني من وجه آخر أنه عاش ستا وثلاثين سنة.

وقيل: كان عمره ثنتين وثلاثين سنة، وكان بعد داود بسبعمائة سنة وأربعين سنة، وكان بعد آدم بخمسة آلاف ومائة وإحدى وثمانين سنة، وكان ملكه ست عشرة سنة.

وهذا الذي ذكره إنما ينطبق على إسكندر الثاني لا الأول، وقد خلط في أول الترجمة وآخرها بينهما، والصواب التفرقة كما ذكرنا اقتداء بجماعة من الحفاظ، والله أعلم.

وممن جعلهما واحدا الإمام عبد الملك بن هشام راوي السيرة، وقد أنكر ذلك عليه الحافظ أبو القاسم السهيلي رحمه الله إنكارا بليغا، ورد قوله ردا شنيعا، وفرق بينهما تفريقا جيدا كما قدمنا قال: ولعل جماعة من الملوك المتقدمين تسموا بذي القرنين تشبها بالأول، والله أعلم.

========

ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم

ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم وما ورد من أخبارهم وصفة السد

هم من ذرية آدم بلا خلاف نعلمه، ثم الدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ:

« يقول الله تعالى يوم القيامة يا آدم، فيقول لبيك وسعديك والخبر في يديك، قم فابعث بعث النار من ذريتك.

فيقول: يا رب وما بعث النار؟

فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.

قال فاشتد ذلك عليهم.

قالوا: يا رسول الله: أينا ذلك الواحد؟

فقال رسول الله ﷺ: أبشروا فإن منكم واحدا، ومن يأجوج ومأجوج ألفا }

وفي رواية:

« فقال ابشروا فإن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه ». أي: غلبتاه كثرة، وهذا يدل على كثرتهم، وأنهم أضعاف الناس مرارا عديدة، ثم هم من ذرية نوح، لأن الله تعالى أخبر أنه استجاب لعبده نوح في دعائه على أهل الأرض بقوله: { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارا } [نوح: 26] .

وقال تعالى: { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } [العنكبوت: 15] .

وقال: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } [الصافات: 77] .

وتقدم في الحديث المروي في المسند والسنن: أن نوحا ولد له ثلاثة، وهم: سام، وحام، ويافث، فسام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك ؛ فيأجوج ومأجوج طائفة من الترك، وهم مغل المغول، وهم أشد بأسا وأكثر فسادا من هؤلاء، ونسبتهم إليهم كنسبة هؤلاء إلى غيرهم.

وقد قيل: إن الترك إنما سموا بذلك حين بنى ذو القرنين السد وألجأ يأجوج ومأجوج إلى ما وراءه، فبقيت منهم طائفة لم يكن عندهم كفسادهم، فتركوا من ورائه، فلهذا قيل لهم: الترك.

ومن زعم أن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم، فاختلطت بتراب، فخلقوا من ذلك، وأنهم ليسوا من حواء، فهو قول حكاه الشيخ أبو زكريا النووي في شرح مسلم وغيره وضعفوه، وهو جدير بذلك، إذ لا دليل عليه، بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع الناس اليوم من ذرية نوح بنص القرآن.

وهكذا من زعم أنهم على أشكال مختلفة وأطوال متباينة جدا ؛ فمنهم من هو كالنخلة السحوق، ومنهم من هو غاية في القصر، ومنهم من يفترش أذنا من أذنيه ويتغطى بالأخرى، فكل هذه أقوال بلا دليل، ورجم بالغيب بغير برهان، والصحيح أنهم من بني آدم وعلى أشكالهم وصفاتهم.

وقد قال النبي ﷺ:

« إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا » ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن.

وهذا فيصل في هذا الباب وغيره. وما قيل من أن أحدهم لا يموت حتى يرى من ذريته ألفا.

فإن صح في خبر قلنا به، وإلا فلا نرده، إذ يحتمله العقل والنقل أيضا قد يرشد إليه، والله أعلم.

بل قد ورد حديث مصرح بذلك أن صح، قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصبهاني، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا المغيرة، عن مسلم، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ قال:

« إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معائشهم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا، وإن من وارئهم ثلاث أمم: تاويل، وتاريس، ومنسك ».

وهو حديث غريب جدا، وإسناده ضعيف، وفيه نكارة شديدة.

وأما الحديث الذي ذكره ابن جرير في تاريخه أن رسول الله ﷺ ذهب إليهم ليلة الإسراء، فدعاهم إلى الله فامتنعوا من إجابته ومتابعته، وأنه دعا تلك الأمم التي هناك (تاريس، وتاويل، ومنسك) فأجابوه، فهو حديث موضوع، اختلقه أبو نعيم عمرو بن الصبح، أحد الكذابين الكبار الذين اعترفوا بوضع الحديث، والله أعلم.

فإن قيل: فكيف دلَّ الحديث المتفق عليه أنهم فداء المؤمنين يوم القيامة، وأنهم في النار ولم يبعث إليهم رسل، وقد قال الله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } فالجواب أنهم لا يعذبون إلا بعد قيام الحجة عليهم والأعذار إليهم، كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [الإسراء: 15] .

فإن كانوا في زمن الذي قبل بعث محمد ﷺ قد أتتهم رسل منهم، فقد قامت على أولئك الحجة، وإن لم يكن قد بعث الله إليهم رسلا فهم في حكم أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة.

وقد دل الحديث المروي من طرق عن جماعة من الصحابة، عن رسول الله ﷺ:

« إن من كان كذلك، يمتحن في عرصات القيامة، فمن أجاب الداعي دخل الجنة، ومن أبى دخل النار ».

وقد أوردنا الحديث بطرق وألفاظه وكلام الأئمة عليه عند قوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } .

وقد حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري إجماعا عن أهل السنة والجماعة، وامتحانهم لا يقتضي نجاتهم، ولا ينافي الأخبار عنهم بأنهم من أهل النار، لأن الله يطلع رسوله ﷺ على ما يشاء من أمر الغيب.

وقد اطلعه على أن هؤلاء من أهل الشقاء، وأن سجاياهم تأبى قبول الحق والانقياد له، فهم لا يجيبون الداعي إلى يوم القيامة، فيعلم من هذا أنهم كانوا أشد تكذيبا للحق في الدنيا لو بلغهم فيها، لأن في عرصات القيامة ينقاد خلق ممن كان مكذبا في الدنيا، فإيقاع الإيمان هناك لما يشاهد من الأهوال أولى وأحرى منه في الدنيا، والله أعلم.

كما قال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحا إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة: 12] .

وقال تعالى: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [مريم: 38] .

وأما الحديث الذي فيه أن رسول الله ﷺ » « دعاهم ليلة الإسراء فلم يجيبوا ».

فإنه حديث منكر بل موضوع، وضعه عمرو بن الصبح.

وأما السد: فقد تقدم أن ذا القرنين بناه من الحديد والنحاس، وساوى به الجبال الصم الشامخات الطوال، فلا يعرف على وجه الأرض بناء أجل منه ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم.

قال البخاري: وقال رجل للنبي ﷺ رأيت السد.

قال: « وكيف رأيته؟ »

قال: مثل البرد المحبر.

فقال: « رأيته هكذا ».

ذكره البخاري معلقا بصيغة الجزم، وأره مسندا من وجه متصل أرتضيه، غير أن ابن جرير رواه في تفسيره مرسلا فقال: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا قال يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج.

قال: « انعته لي ».

قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء.

قال: « قد رأيته ».

وقد ذكر أن الخليفة الواثق بعث رسلا من جهته، وكتب لهم كتبا إلى الملوك يوصلونهم من بلاد إلى بلاد حتى ينهوا إلى السد، فيكشفوا عن خبره، وينظروا كيف بناه ذو القرنين، على أي صفة؟ فلما رجعوا أخبروا عن صفته، وأن فيه بابا عظيما، وعليه أقفال، وأنه بناء محكم شاهق منيف جدا، وأن بقية اللبن الحديد والآلات في برج هناك.

وذكروا أنه لا يزال هناك حرس لتلك الملوك المتاخمة لتلك البلاد، ومحلته في شرقي الأرض في جهة الشمال في زاوية الأرض الشرقية الشمالية، ويقال: إن بلادهم متسعة جدا، وإنهم يقتاتون بأصناف من المعايش من حراثة وزراعة واصطياد من البر ومن البحر، وهم أمم وخلق لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم.

فإن قيل: فما الجمع بين قوله تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا } وبين الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: استيقظ رسول الله ﷺ من نوم محمرا وجهه وهو يقول:

« لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ».

وحلق، تسعين.

قلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟

قال: « نعم إذا كثر الخبث ».

وأخرجاه في (الصحيحين): من حديث وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:

« فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وعقد تسعين ».

فالجواب أما على قول من ذهب إلى أن هذا إشارة إلى فتح أبواب الشر والفتن، وأن هذا استعارة محضة، وضرب مثل فلا إشكال.

وأما على قول من جعل ذلك إخبارا عن أمر محسوس كما هو الظاهر المتبادر فلا إشكال أيضا، لأن قوله: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا } .

أي: في ذلك الزمان لأن هذه صيغة خبر ماض، فلا ينفي وقوعه فيما يستقبل بإذن الله لهم في ذلك قدرا، وتسليطهم عليه بالتدريج قليلا قليلا، حتى يتم الأجل وينقضي الأمر المقدور، فيخرجون كما قال الله تعالى: { وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } [الأنبياء: 96] .

ولكن الحديث الآخر أشكل من هذا، وهو ما رواه الإمام أحمد في مسنده قائلا: حدثنا روح، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، حدثنا أبو رافع، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ قال:

« إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرون غدا إن شاء الله ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئة يوم تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس، فيستقون المياه، وتتحصن الناس في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم.

فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيقتلهم بها ».

قال رسول الله ﷺ:

« والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم ودمائهم ».

ورواه أحمد أيضا عن حسن بن موسى، عن سفيان، عن قتادة به. وهكذا رواه ابن ماجه من حديث سعيد، عن قتادة، إلا أنه قال حديث أبو رافع.

ورواه الترمذي من حديث أبي عوانة، عن قتادة به، ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

فقد أخبر في هذا الحديث أنهم كل يوم يلحسونه حتى يكادوا ينذرون شعاع الشمس من ورائه لرقته، فإن لم يكن رفع هذا الحديث محفوظا، وإنما هو مأخوذ عن كعب الأحبار، كما قاله بعضهم، فقد استرحنا من المؤنة، وإن كان محفوظا، فيكون محمولا على أن صنيعهم هذا يكون في آخر الزمان عند اقتراب خروجهم كما هو المروي عن كعب الأحبار.

أو يكون المراد بقوله: { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا } أي: نافذا منه فلا ينفي أن يلحسوه ولا ينفذوه، والله أعلم.

وعلى هذا فيمكن الجمع بين هذا وبين ما في (الصحيحين) عن أبي هريرة:

« فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد تسعين ».

أي: فتح فتحا نافذا فيه، والله أعلم.

======

قصة أصحاب الكهف

قال الله تعالى: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَها لَقَدْ قُلْنَا إِذا شَطَطا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُرْشِدا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْما أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاما فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذا أَبَدا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدا * سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْما بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدا * وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا } [الكهف: 9-26] .

كان سبب نزول قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين، ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة وغيره أن قريشا بعثوا إلى اليهود يسألونهم عن أشياء يمتحنون بها رسول الله ﷺ ويسألونه عنها ليختبروا ما يجيب به فيها، فقالوا: سلوه عن أقوام ذهبوا في الدهر فلا يدري ما صنعوا، وعن رجل طواف في الأرض، وعن الروح، فأنزل الله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } [الإسراء: 85] .

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ } وقال ههنا: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبا } أي: ليسوا بعجب عظيم بالنسبة إلى ما أطلعناك عليه من الأخبار العظيمة، والآيات الباهرة، والعجائب الغريبة. والكهف: هو الغار في الجبل.

قال شعيب الجبائي: واسم كهفهم حيزم، وأما الرقيم: فعن ابن عباس أنه قال لا أدري ما المراد به. وقيل: هو الكتاب المرقوم فيه أسماؤهم، وما جرى لهم كتب من بعدهم، اختاره ابن جرير وغيره. وقيل: هو اسم الجبل الذي فيه كهفهم. قال ابن عباس وشعيب الجبائي: واسمه بناجلوس. وقيل: هو اسم واد عند كهفهم. وقيل: اسم قرية هنالك، والله أعلم.

قال شعيب الجبائي: واسم كلبهم حمران، واعتناء اليهود بأمرهم ومعرفة خبرهم، يدل على أن زمانهم متقدم على ما ذكره بعض المفسرين أنهم كانوا بعد المسيح، وأنهم كانوا نصارى.

والظاهر من السياق أن قومهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام، قال كثير من المفسرين والمؤرخين وغيرهم: كانوا في زمن ملك يقال له: دقيانوس، وكانوا من أبناء الأكابر. وقيل: من أبناء الملوك.

واتفق اجتماعهم في يوم عيد لقومهم، فرأوا ما يتعاطاه قومهم من السجود للأصنام، والتعظيم للأوثان، فنظروا بعين البصيرة، وكشف الله عن قلوبهم حجاب الغفلة، وألهمهم رشدهم، فعلموا أن قومهم ليسوا على شيء، فخرجوا عن دينهم، وانتموا إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

ويقال: إن كل واحد منهم لما أوقع الله في نفسه ما هداه إليه من التوحيد انحاز عن الناس، واتفق اجتماع هؤلاء الفتية في مكان واحد كما صح في (البخاري):

« الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف »

فكل منهم سأل الآخر عن أمره، وعن شأنه، فأخبره ما هو عليه، واتفقوا على الانحياز عن قومهم والتبري منهم، والخروج من بين أظهرهم، والفرار بدينهم منهم، وهو المشروع حال الفتن، وظهور الشرور.

قال الله تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَها لَقَدْ قُلْنَا إِذا شَطَطا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي: بدليل ظاهر على ما ذهبوا إليه، وصاروا من الأمر عليه، { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبا } .

{ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } أي: وإذ فارقتموهم في دينهم، وتبرأتم مما يعبدون من دون الله، وذلك لأنهم كانوا يشركون مع الله كما قال الخليل: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [الزخرف: 26-27] .

وهكذا هؤلاء الفتية قال بعضهم: إذ قد فارقتم قومكم في دينهم فاعتزلوهم بابدانكم، لتسلموا منهم أن يوصلوا إليكم شرا { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقا } أي: يسبل عليكم ستره، وتكونوا تحت حفظه وكنفه، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، كما جاء في الحديث:

« اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة ».

ثم ذكر تعالى صفة الغار الذي آووا إليه، وأن بابه موجه إلى نحو الشمال، وأعماقه إلى جهة القبلة، وذلك أنفع الأماكن أن يكون المكان قبليا، وبابه نحو الشمال فقال: { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ } وقرىء: تزور { عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ } .

فأخبر أن الشمس يعني في زمن الصيف وأشباهه تشرق أول طلوعها في الغار في جانبه الغربي، ثم تشرع في الخروج منه قليلا قليلا، وهو ازورارها ذات اليمين، فترتفع في جو السماء وتتقلص عن باب الغار، ثم إذا تضيفت للغروب تشرع في الدخول فيه، من جهته الشرقية قليلا قليلا إلى حين الغروب، كما هو المشاهد بمثل هذا المكان. والحكمة في دخول الشمس إليه في بعض الأحيان أن لا يفسد هواؤه.

{ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } أي: بقاؤهم على هذه الصفة دهرا طويلا من السنين، لا يأكلون ولا يشربون، ولا تتغذى أجسادهم في هذه المدة الطويلة من آيات الله، وبرهان قدرته العظيمة.

{ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُرْشِدا } قال بعضهم: لأن أعينهم مفتوحة لئلا تفسد بطول الغمض { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } قيل في كل عام يتحولون مرة من جنب إلى جنب، ويحتمل أكثر من ذلك، فالله أعلم.

{ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } قال شعيب الجبائي: اسم كلبهم حمران، وقال غيره: الوصيد، اسكفة الباب، والمراد أن كلبهم الذي كان معهم، وصحبهم حال انفرادهم من قومهم، لزمهم ولم يدخل معهم في الكهف، بل ربض على بابه، ووضع يديه على الوصيد، وهذا من جملة أدبه، ومن جملة ما أكرموا به، فإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب.

ولما كانت التبعية مؤثرة حتى كان في كلب هؤلاء صار باقيا معهم ببقائهم، لأن من أحب قوما سعد بهم، فإذا كان هذا في حق كلب، فما ظنك بمن تبع أهل الخير وهو أهل للإكرام.

وقد ذكر كثير من القصاص والمفسرين لهذا الكلب نبأ وخبرا طويلا أكثره متلقى من الإسرائيليات، وكثير منها كذب، ومما لا فائدة فيه، كاختلافهم في اسمه ولونه.

وأما اختلاف العلماء في محلة هذا الكهف، فقال كثيرون: هو بأرض أيلة، وقيل: بأرض نينوى، وقيل: بالبلقاء، وقيل: ببلاد الروم وهو أشبه، والله أعلم.

ولما ذكر الله تعالى ما هو الأنفع من خبرهم، والأهم من أمرهم، ووصف حالهم، حتى كأن السامع راءٍ، والمخبر مشاهد لصفة كهفهم وكيفيتهم في ذلك الكهف، وتقلبهم من جنب إلى جنب، وأن كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد.

قال: { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبا } أي: لما عليهم من المهابة والجلالة في أمرهم الذي صاروا إليه، ولعل الخطاب ههنا لجنس الإنسان المخاطب لا بخصوصية الرسول ﷺ، كقوله: { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } [التين: 7] أي: أيها الإنسان، وذلك لأن طبيعة البشرية تفر من رؤية الأشياء المهيبة غالبا.

ولهذا قال: { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبا } ودل على أن الخبر ليس كالمعاينة، كما جاء في الحديث لأن الخبر قد حصل، ولم يحصل الفرار ولا الرعب.

ثم ذكر تعالى أنه بعثهم من رقدتهم بعد نومهم بثلاثمائة سنة وتسع سنين فلما استيقظوا، قال بعضهم لبعض: { كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْما أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ } أي: بدراهمكم هذه، يعني التي معهم إلى المدينة، ويقال كان اسمها دفسوس.

{ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاما } أي: أطيب مالا { فليأتكم برزق منه } أي: بطعام تأكلونه، وهذا من زهدهم وورعهم { وَلْيَتَلَطَّفْ } أي: في دخوله إليها { وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذا أَبَدا } أي: إن عدتم في ملتهم بعد إذ أنقذكم الله منها، وهذا كله لظنهم أنهم رقدوا يوما أو بعض يوم أو أكثر من ذلك، ولم يحسبوا أنهم قد رقدوا أزيد من ثلاثمائة سنة.

وقد تبدلت الدول أطوارا عديدة وتغيرت البلاد ومن عليها، وذهب أولئك القرن الذين كانوا فيهم، وجاء غيرهم، وذهبوا وجاء غيرهم، ولهذا لما خرج أحدهم وهو تيذوسيس فيما قيل، وجاء إلى المدينة متنكرا لئلا يعرفه أحد من قومه فيما يحسبه، تنكرت له البلاد، واستنكره من يراه من أهلها، واستغربوا شكله وصفته ودراهمه.

فيقال: إنهم حملوه إلى متوليهم، وخافوا من أمره أن يكون جاسوسا، أو تكون له صولة يخشون من مضرتها، فيقال: إنه هرب منهم، ويقال: بل أخبرهم خبره ومن معه وما كان من أمرهم، فانطلقوا معه ليريهم مكانهم، فلما قربوا من الكهف دخل إلى إخوانه، فأخبرهم حقيقة أمرهم، ومقدار ما رقدوا، فعلموا أن هذا أمر قدره الله، فيقال: إنهم استمروا راقدين، ويقال: بل ماتوا بعد ذلك.

وأما أهل البلدة فيقال: إنهم لم يهتدوا إلى موضعهم من الغار، وعمي الله عليهم أمرهم، ويقال: لم يستطيعوا دخوله حسا، ويقال: مهابة لهم.

واختلفوا في أمرهم فقائلون يقولون: { ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانا } أي: سدوا عليهم باب الكهف لئلا يخرجوا أو لئلا يصل إليهم ما يؤذيهم، وآخرون وهم الغالبون على أمرهم قالوا: { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدا } أي: معبدا يكون مباركا لمجاورته هؤلاء الصالحين، وهذا كان شائعا فيمن كان قبلنا.

فأما في شرعنا فقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال:

« لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » يحذر ما فعلوا.

وأما قوله: { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا } فمعنى أعثرنا: أطلعنا على أمرهم الناس، قال كثير من المفسرين: ليعلم الناس أن المعاد حق، وأن الساعة لا ريب فيها، إذا علموا أن هؤلاء القوم رقدوا أزيد من ثلاثمائة سنة، ثم قاموا كما كانوا من غير تغير منهم، فإن من أبقاهم كما هم، قادر على إعادة الأبدان وإن أكلتها الديدان، وعلى إحياء الأموات وإن صارت أجسامهم وعظامهم رفاتا، وهذا مما لا يشك فيه المؤمنون { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82] .

ويحتمل عود الضمير في قوله: { لِيَعْلَمُوا } إلى أصحاب الكهف، إذ علمهم بذلك من أنفسهم أبلغ من علم غيرهم بهم، ويحتمل أن يعود على الجميع، والله أعلم.

ثم قال تعالى: { سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْما بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } فذكر اختلاف الناس في كميتهم، فحكى ثلاثة أقوال، وضعف الأولين، وقرر الثالث، فدل على أنه الحق، إذ لو قيل غير ذلك لحكاه، ولو لم يكن هذا الثالث هو الصحيح لوهاه، فدل على ما قلناه.

ولما كان النزاع في مثل هذا لا طائل تحته ولا جدوى عنده، أرشد نبيه ﷺ إلى الأدب في مثل هذا الحال، إذا اختلف الناس فيه أن يقول الله أعلم، ولهذا قال: { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ } وقوله: { مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ } أي: من الناس { فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرا } أي: سهلا ولا تتكلف أعمال الجدال في مثل هذا الحال ولا تستفت في أمرهم أحدا من الرجال.

ولهذا أبهم تعالى عدتهم في أول القصة فقال: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ } ولو كان في تعين عدتهم كبير فائدة لذكرها عالم الغيب والشهادة، وقوله تعالى: { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا } .

أدب عظيم أرشده الله تعالى إليه وحث خلقه عليه، وهو ما إذا قال أحدهم إني سأفعل في المستقبل كذا، فيشرع له أن يقول إن شاء الله، ليكون ذلك تحقيقا لعزمه، لأن العبد لا يعلم ما في غد ولا يدري أهذا الذي عزم عليه مقدر أم لا.

وليس هذا الاستثناء تعليقا وإنما هو الحقيقي، ولهذا قال ابن عباس: يصح إلى سنة، ولكن قد يكون في بعض المحال لهذا، ولهذا كما تقدم في قصة سليمان عليه السلام حين قال:

« لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله.

فقيل له: قل إن شاء الله، فلم يقل فطاف فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان قال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته ».

وقوله: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } وذلك لأن النسيان قد يكون من الشيطان، فذكر الله يطرده عن القلب فيذكر ما كان قد نسيه.

وقوله: { وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا } أي: إذا اشتبه أمر وأشكل حال والتبس أقوال الناس في شيء فارغب إلى الله ييسره لك ويسهله عليك. ثم قال: { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا } لما كان في الأخبار بطول مدة لبثهم فائدة عظيمة ذكرها تعالى وهذه التسع المزيدة بالقمرية وهي لتكميل ثلاثمائة شمسية، فإن كل مائة قمرية تنقص عن الشمسية ثلاث سنين.

{ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } أي: إذا سئلت عن مثل هذا وليس عندك في ذلك نقل، فرد الأمر في ذلك إلى الله عز وجل { لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: هو العالم بالغيب فلا يطلع عليه إلا من شاء من خلقه { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } يعني أنه يضع الأشياء في محالها لعلمه التام بخلقه وبما يستحقونه.

ثم قال: { مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا } أي: ربك المنفرد بالملك والمتصرف وحده لا شريك له

No comments:

Post a Comment