فصل تعظيم قريش للحرم تعظيما زائدا أدى إلى الابتداع
وذكر ابن إسحاق ما كانت قريش ابتدعوه في تسميتهم الحمس، وهو الشدة في الدين والصلابة، وذلك لأنهم عظموا الحرم تعظيما زائدا، بحيث التزموا بسببه أن لا يخرجوا منه ليلة عرفة.
وكانوا يقولون: نحن أبناء الحرم وقطان بيت الله، فكانوا لا يقفون بعرفات مع علمهم أنها من مشاعر إبراهيم عليه السلام، حتى لا يخرجوا عن نظام ما كانوا قرروه من البدعة الفاسدة.
وكانوا لا يدخرون من اللبن أقطا ولا سمنا، ولا يسلون شحما وهم حرم، ولا يدخلون بيتا من شعر، ولا يستظلون إن استظلوا إلا ببيت من أدم.
وكانوا يمنعون الحجيج والعمار - ما داموا محرمين - أن يأكلوا إلا من طعام قريش، ولا يطوفوا إلا في ثياب قريش، فإن لم يجد أحد منهم ثوب أحد من الحمس وهم قريش وما ولدوا ومن دخل معهم من كنانة وخزاعة، طاف عريانا ولو كانت امرأة، ولهذا كانت المرأة إذا اتفق طوافها لذلك، وضعت يدها على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله * وبعد هذا اليوم لا أحله
فإن تكرم أحد ممن يجد ثوب أحمسي فطاف في ثياب نفسه، فعليه إذا فرغ من الطواف أن يلقيها فلا ينتفع بها بعد ذلك، وليس له ولا لغيره أن يمسها، وكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقي.
قال بعض الشعراء:
كفى حزنا كرى عليه كأنه * لقي بين أيدي الطائفين حريم
قال ابن إسحاق: فكانوا كذلك حتى بعث الله محمدا ﷺ وأنزل عليه القرآن رداُ عليهم فيما ابتدعوه. فقال تعالى: { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أي: جمهور العرب من عرفات { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [البقرة: 199] .
وقد قدمنا أن رسول الله ﷺ كان يقف بعرفات قبل أن ينزل عليه توفيقا من الله له، وأنزل الله عليه ردا عليهم فيما كانوا حرموا من اللباس والطعام على الناس { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ... } الآية [الأعراف: 31-32]
وقال زياد البكائي عن ابن إسحاق: ولا أدري أكان ابتداعهم لذلك قبل الفيل أو بعده.
مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا وذكر شيء من البشارات بذلك
قال محمد بن إسحاق رحمه الله: وكانت الأحبار من اليهود والكهان من النصارى ومن العرب، قد تحدثوا بأمر رسول الله ﷺ قبل مبعثه، لما تقارب زمانه.
أما الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته، وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه.
قال الله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ... } الآية [الأعراف: 157] .
وقال الله تعالى: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ... } [الصف: 6] .
وقال الله تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعا سُجَّدا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ... } الآية [الفتح: 29] .
وقال الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران: 81] .
وفي (صحيح البخاري): عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه. يعلم من هذا أن جميع الأنبياء بشروا وأمروا باتباعه.
وقد قال إبراهيم عليه السلام فيما دعا به لأهل مكة: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ... } الآية [البقرة: 129] .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة قال: قلت: يا رسول الله، ما كان بدء أمرك؟
قال: « دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام ».
وقد روى محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله ﷺ عنه مثله. ومعنى هذا أنه أراد بدء أمره بين الناس، واشتهار ذكره، وانتشاره، فذكر دعوة إبراهيم الذي تنسب إليه العرب، ثم بشرى عيسى الذي هو خاتم أنبياء بني إسرائيل كما تقدم، يدل هذا على أن من بينهما من الأنبياء بشروا به أيضا.
أما في الملأ الأعلى فقد كان أمره مشهورا مذكورا معلوما من قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية قال:
قال رسول الله ﷺ:
« إني عبد الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات المؤمنين ».
وقد رواه الليث عن معاوية بن صالح وقال: إن أمه رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا منصور بن سعد، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟
قال: « وآدم بين الروح والجسد ». تفرد بهن أحمد.
وقد رواه عمر بن أحمد بن شاهين في كتاب (دلائل النبوة) من حديث أبي هريرة فقال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز - يعني أبا القاسم البغوي - حدثنا أبو همام الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، حدثني يحيى عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: سُئل رسول الله ﷺ متى وجبت لك النبوة؟
قال: « بين خلق آدم ونفخ الروح فيه ».
ورواه من وجه آخر عن الأوزاعي به: وقال: « وآدم منجدل في طينته ».
وروي عن البغوي أيضا: عن أحمد بن المقدام، عن بقية بن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي هريرة مرفوعا في قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ } [الأحزاب: 7] .
قال رسول الله ﷺ: « كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث ».
ومن حديث أبي مزاحم عن قيس بن الربيع، عن جابر، عن الشعبي، عن ابن عباس قيل: يا رسول الله متى كنت نبيا؟
قال: « وآدم بين الروح والجسد ».
وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن مما تسترق من السمع، إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما بعض ذكر أموره، ولا يلقي العرب لذلك فيه بالا، حتى بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها.
فلما تقارب أمر رسول الله ﷺ وحضر زمان مبعثه حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تعقد لاستراق السمع فيها، فرموا بالنجوم فعرفت الشياطين أن ذلك لأمر حدث من أمر الله عز وجل.
قال: وفي ذلك أنزل الله على رسوله ﷺ: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنا عَجَبا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدا.... } [الجن: 1-28] إلى آخر السورة.
وقد ذكرنا تفسير ذلك كله في كتابنا التفسير، وكذا قوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ... } [الأحقاف: 29-30] الآيات، ذكرنا تفسير ذلك كله هناك.
قال محمد بن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمي بها - هذا الحي من ثقيف - وإنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية أحد بني علاج، وكان أدهى العرب وأمكرها، فقالوا له: يا عمرو ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم؟
قال: بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر، ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء، لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمي بها، فهو والله طي الدنيا وهلاك هذا الخلق، وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق فما هو؟
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن امرأة من بني سهم يقال لها الغيطلة، كانت كاهنة في الجاهلية جاءها صاحبها ليلة من الليالي، فانقض تحتها ثم قال: أدر ما أدر يوم عقر ونحر. قالت قريش حين بلغها ذلك: ما يريد؟
ثم جاءها ليلة أخرى فانقض تحتها، ثم قال: شعوب ما شعوب تصرع فيه كعب الجنوب، فلما بلغ ذلك قريشا قالوا: ماذا يريد إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو؟ فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب، فعرفوا أنه كان الذي جاء به إلى صاحبته.
قال ابن إسحاق: وحدثني علي بن نافع الجرشي أن جنبا - بطنا من اليمن - كان لهم كاهن في الجاهلية، فلما ذكر أمر رسول الله ﷺ، وانتشر في العرب قالت له جنب: انظر لنا في أمر هذا الرجل، واجتمعوا له في أسفل جبله.
فنزل إليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس له، فرفع رأسه إلى السماء طويلا، ثم جعل ينزو، ثم قال: أيها الناس إن الله أكرم محمدا واصطفاه، وطهر قلبه وحشاه، ومكثه فيكم أيها الناس قليل، ثم اشتد في جبله راجعا من حيث جاء.
ثم ذكر ابن إسحاق قصة سواد بن قارب، وقد أخرناها إلى هواتف الجان.
فصل طلب اليهود من الله تعالى أن يبعث لهم نبيا يحكم بينهم وبين الناس
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام - مع رحمة الله تعالى وهداه لنا - أن كنا نسمع من رجل من يهود - وكنا أهل شرك أصحاب أوثان - وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا يزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم.
فلما بعث الله رسول الله ﷺ أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية: { وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ الله مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ } [البقرة: 89] .
وقال ورقاء عن ابن أبي نجيح عن علي الأزدي: كانت اليهود تقول: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس يستفتحون به - أي يستنصرون به على الناس - رواه البيهقي.
ثم روي من طريق عبد الملك بن هارون بن عنبرة، عن أبيه، عن جده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت اليهود بخيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالوا: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم.
قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي ﷺ كفروا به، فأنزل الله عز وجل: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا... } الآية.
وروى عطية، عن ابن عباس نحوه.
وروي عن عكرمة من قوله نحو ذلك أيضا.
وقال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلام بن وقش - وكان من أهل بدر - قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا، علي فروة لي مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار
قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، أو ترى هذا كائنا؟ أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟
قال: نعم، والذي يحلف به ويود أن له تحطة من تلك النار أعظم تنور في الدار، يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، وأن ينجو من تلك النار غدا.
قالوا له: ويحك يا فلان، فما آية ذلك؟
قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى نحو مكة واليمن.
قالوا: ومتى نراه؟
قال: - فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا - فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه.
قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا رسوله ﷺ، وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا.
قال: فقلنا له: ويحك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟
قال: بلى، ولكن ليس به. رواه أحمد، عن يعقوب، عن أبيه، عن ابن عباس.
ورواه البيهقي، عن الحاكم بإسناده من طريق يونس بن بكير.
وروى أبو نعيم في (الدلائل) عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن محمد بن سلمة قال:
لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد يقال له يوشع، فسمعته يقول - وإني لغلام في إزار - قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت، ثم أشار بيده إلى بيت الله، فمن أدركه فليصدقه، فبعث رسول الله ﷺ فأسلمنا وهو بين أظهرنا لم يسلم حسدا وبغيا
وقد قدمنا حديث أبي سعيد، عن أبيه في أخبار يوشع هذا عن خروج رسول الله ﷺ، وصفته، ونعته وإخبار الزبير بن باطا عن ظهور كوكب مولد رسول الله ﷺ، ورواه الحاكم عن البيهقي بإسناده من طريق يونس بن بكير عنه.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة قال: قال لي هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد - نفر من بني هدل إخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادتهم في الإسلام -
قال: قلت: لا.
قال: فإن رجلا من اليهود من أرض الشام يقال له ابن الهيبان قدم علينا قبل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة. فنقول له: كم؟
فيقول: صاعا من تمر، أو مدين من شعير.
قال: فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا، فيستسقي لنا، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب، ويسقي، قد فعل ذلك غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثا.
قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع.
قال: قلنا: أنت أعلم.
قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء فيمن خالفه، فلا يمنعنكم ذلك منه.
فلما بعث رسول الله ﷺ وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية - وكانوا شبابا أحداثا - يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان، قالوا: ليس به. قالوا: بلى والله إنه لهو بصفته، فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم، وأموالهم، وأهليهم.
قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا عن أحبار يهود.
قلت: وقد قدمنا في قدوم تبع اليماني - وهو أبو كرب تبان أسعد - إلى المدينة ومحاصرته إياها، وإنه خرج إليه ذانك الحبران من اليهود فقالا له: إنه لا سبيل لك عليها، إنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان، فثناه ذلك عنها.
وقد روى أبو نعيم في (الدلائل) من طريق الوليد بن مسلم: حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال: قال عبد الله بن سلام:
إن الله لما أراد هدي زيد بن سعية قال زيد: لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد ﷺ حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه، يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.
قال: فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فذكر قصة إسلافه للنبي ﷺ مالا في ثمرة. قال: فلما حل الأجل أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه - وهو في جنازة مع أصحابه - ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب لمطل.
قال: فنظر إلى عمر وعيناه يدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم قال: يا عدو الله أتقول لرسول الله ﷺ ما أسمع، وتفعل ما أرى؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله ﷺ ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم.
ثم قال: أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزد عشرين صاعا من تمر. فأسلم زيد بن سعية رضي الله عنه، وشهد بقية المشاهد مع رسول الله ﷺ، وتوفي عام تبوك رحمه الله.
ثم ذكر ابن إسحاق رحمه الله إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه فقال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن عبد الله بن عباس قال: حدثني سلمان الفارسي - من فيه - قال:
كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها جي، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة.
قال: وكانت لأبي ضيعة عظيمة، قال: فشغل في بنيان له يوما، فقال لي: يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب إليها فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، ثم قال لي: ولا تحتبس عني، فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلى من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري.
قال: فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها
ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟
قالوا: بالشام.
فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي، وشغلته عن أمره كله، فلما جئت قال: أي بني أين كنت، ألم أكن أعهد إليك ما عهدته؟
قال: قلت: يا أبة مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه.
قال: قلت: كلا والله، إنه لخير من ديننا.
قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيتي.
قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم. قال: فقدم عليهم ركب من الشام فجاءني النصارى فأخبروني بهم. فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني.
قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما؟
قالوا: الأسقف في الكنيسة. قال: فجئته فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك، وأخدمك في كنيستك، وأتعلم منك فأصلي معك.
قال: ادخل. فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا له شيئا كنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق. قال: وأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع، ثم مات واجتمعت له النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها كنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئا.
قال: فقالوا لي: وما علمك بذلك؟
قال: فقلت لهم: أنا أدلكم على كنزه. قالوا: فدلنا عليه.
قال: فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوها قالوا لا ندفنه أبدا. قال: فصلبوه ورجموه بالحجارة، وجاؤا برجل آخر فوضعوه مكانه.
قال سلمان: فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، وأزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه، قال: فأحببته حبا لم أحب شيئا قبله مثله.
قال: فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاة فقلت له: إني قد كنت معك، وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى فإلى من توصى بي وبم تأمرني به؟
قال: أي بني، والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه، لقد هلك الناس، وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه، فالحق به.
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له: يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصى بي، وبم تأمرني؟
قال: يا بني، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين، وهو فلان فالحق به.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري وما أمرني به صاحباي.
فقال: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصى بي، وبم تأمرني؟
قال: يا بني، والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجل بعمورية من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فائته فإنه على أمرنا، فلما مات وغيب، لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبري فقال: أقم عندي. فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة.
قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان، فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصى بي، وبم تأمرني؟
قال: أي بني، والله ما أعلم أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى الأرض بين حرتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.
قال: ثم مات وغيب ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه. قالوا: نعم فأعطيتهموها وحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي عبدا، فكنت عنده ورأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق في نفسي.
فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي لها، فأقمت بها، وبعث رسول الله ﷺ فأقام بمكة ما أقام، ولا أسمع له بذكر مما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال يا فلان: قاتل الله بني قيلة، والله إنهم لمجتمعون الآن بقباء على رجل قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي.
قال سلمان: فلما سمعتها أخذتني الرعدة، حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه: ماذا تقول، ماذا تقول؟
قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك.
قال: فقلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال.
قال: وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت به إلى رسول الله ﷺ وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم.
قال: فقربته إليه، فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: كلوا، وأمسك يده فلم يأكل.
فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا، وتحول رسول الله ﷺ إلى المدينة، ثم جئته فقلت له: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها.
قال: فأكل رسول الله ﷺ منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان ثنتان.
قال: ثم جئت رسول الله ﷺ وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه وعليه شملتان، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدبرته أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟ فلما رآني رسول الله ﷺ استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي.
فقال لي رسول الله ﷺ: « تحول ». فتحولت بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله ﷺ أن يسمع ذاك أصحابه، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله ﷺ بدر وأحد.
قال سلمان: ثم قال لي رسول الله ﷺ: « كاتب يا سلمان ».
فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية.
فقال رسول الله ﷺ لأصحابه:
« أعينوا أخاكم ».
فأعانوني في النخل: الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمس عشرة ودية، والرجل بعشرة، يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله ﷺ:
« اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فائتني أكن أنا أضعها بيدي ».
قال: ففقرت وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله ﷺ معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي، ويضعه رسول الله ﷺ بيده، حتى إذا فرغنا فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل، وبقي على المال.
فأتى رسول الله ﷺ بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال:
« ما فعل الفارسي المكاتب؟ »
قال: فدعيت له.
قال: « خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان ».
قال: قلت: وأين تقع هذه مما علي يا رسول الله؟
قال: « خذها فإن الله سيؤدي بها عنك ».
قال: فأخذتها فوزنت لهم منها - والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم، وعتق سلمان، فشهدت مع رسول الله ﷺ الخندق حرا، ثم لم يفتني معه مشهد.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن رجل من عبد القيس، عن سلمان أنه قال: لما قلت: وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله؟ أخذها رسول الله ﷺ فقلبها على لسانه، ثم قال: « خذها فأوفهم منها ».
فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، حدثني من لا أتهم، عن عمر بن عبد العزيز بن مروان قال: حدثت عن سلمان أنه قال لرسول الله ﷺ حين أخبره أن صاحب عمورية قال له: إيت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج كل سنة من هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الأسقام، فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي، فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي فهو يخبرك عنه.
قال سلمان: فخرجت حتى جئت حيث وصف لي، فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك، حتى يخرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم، لا يدعو لمريض إلا شفي، وغلبوني عليه، فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل إلا منكبه.
قال: فتناولته، فقال: من هذا؟ والتفت إليّ، قال: قلت: يرحمك الله، أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم، قال: إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك زمان نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فأته فهو يحملك عليه، ثم دخل.
فقال رسول الله ﷺ لسلمان: « لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم ».
هكذا وقع في هذه الرواية، وفيها رجل مبهم - وهو شيخ عاصم بن عمر بن قتادة - وقد قيل: إنه الحسن بن عمارة، ثم هو منقطع بل معضل بين عمر بن عبد العزيز، وسلمان رضي الله عنه.
قوله: لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم، غريب جدا بل منكر. فإن الفترة أقل ما قيل فيها أنها أربعمائة سنة وقيل: ستمائة سنة بالشمسية، وسلمان أكثر ما قيل إنه عاش ثلاثمائة سنة وخمسين سنة.
وحكى العباس بن يزيد البحراني إجماع مشايخه على أنه عاش مائتين وخمسين سنة، واختلفوا فيما زاد إلى ثلاثمائة وخمسين سنة، والله أعلم.
والظاهر أنه قال: لقد لقيت وصي عيسى بن مريم فهذا ممكن بالصواب.
وقال السهيلي: الرجل المبهم هو الحسن بن عمارة، وهو ضعيف، وإن صح لم يكن فيه نكارة، لأن ابن جرير ذكر أن المسيح نزل من السماء بعد ما رفع فوجد أمه وامرأة أخرى يبكيان عند جذع المصلوب فأخبرهما أنه لم يقتل، وبعث الحواريين بعد ذلك.
قال: وإذا جاز نزوله مرة جاز نزوله مرارا، ثم يكون نزوله الظاهر حين يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويتزوج حينئذ امرأة من بني جذام، وإذا مات دفن في حجرة روضة رسول الله ﷺ.
وقد روى البيهقي في كتاب (دلائل النبوة) قصة سلمان هذه من طريق يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق كما تقدم..
ورواها أيضا عن الحاكم، عن الأصم، عن يحيى بن أبي طالب: حدثنا علي بن عاصم، حدثنا حاتم بن أبي صفرة، عن سماك بن حرب، عن يزيد بن صوحان أنه سمع سلمان يحدث كيف كان أول إسلامه، فذكر قصة طويلة وذكر أنه كان من رامهرمز، وكان له أخ أكبر منه غني، وكان سلمان فقيرا في كنف أخيه، وأن ابن دهقانها كان صاحبا له، وكان يختلف معه إلى معلم لهم، وأنه كان يختلف ذلك الغلام إلى عباد من النصارى في كهف لهم.
فسأله سلمان أن يذهب به معه إليهم، فقال له: إنك غلام وأخشى أن تنم عليهم فيقتلهم أبي، فالتزم له أن لا يكون منه شيء يكرهه، فذهب به معه فإذا هم ستة أو سبعة، كأن الروح قد خرجت منهم من العبادة، يصومون النهار، ويقومون الليل، يأكلون الشجر وما وجدوا، فذكر عنهم أنهم يؤمنون بالرسل المتقدمين، وأن عيسى عبد الله ورسوله وابن أمته، أيده بالمعجزات.
وقالوا له: يا غلام إن لك ربا، وإن لك معادا، وإن بين يديك جنة ونارا، وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما يصنعون، وليسوا على دينه.
ثم جعل يتردد مع ذلك الغلام إليهم، ثم لزمهم سلمان بالكلية، ثم أجلاهم ملك تلك البلاد، وهو أبو ذلك الغلام الذي صحبه سلمان إليهم عن أرضه، واحتبس الملك ابنه عنده، وعرض سلمان دينهم على أخيه الذي هو أكبر منه فقال: إني مشتغل بنفسي في طلب المعيشة، فارتحل معهم سلمان حتى دخلوا كنيسة الموصل فسلم عليهم أهلها.
ثم أرادوا أن يتركوني عندهم فأبيت إلا صحبتهم، فخرجوا حتى أتوا واديا بين جبال، فتحدر إليهم رهبان تلك الناحية يسلمون عليهم، واجتمعوا إليهم، وجعلوا يسألونهم عن غيبتهم عنهم، ويسألونهم عني، فيثنون علي خيرا.
وجاء رجل معظم فيهم فخطبهم فأثنى على الله بما هو أهله، وذكر الرسل وما أيدوا به، وذكر عيسى بن مريم وأنه كان عبد الله ورسوله، وأمرهم بالخير ونهاهم عن الشر، ثم لما أرادوا الانصراف تبعه سلمان ولزمه.
قال: فكان يصوم النهار، ويقوم الليل من الأحد إلى الأحد، فيخرج إليهم ويعظهم ويأمرهم وينهاهم، فمكث على ذلك مدة طويلة، ثم أراد أن يزور بيت المقدس فصحبه سلمان إليه.
قال: فكان فيما يمشي يلتفت إلي ويقبل علي فيعظني، ويخبرني أن لي ربا، وأن بين يدي جنة ونارا وحسابا، ويعلمني ويذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الأحد. قال فيما يقول لي: يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج من تهامة، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب.
فأما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه، فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه، قلت له: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه؟ قال: وإن أمرك فإن الحق فيما يجيء به ورضى الرحمن فيما قال.
ثم ذكر قدومهما إلى بيت المقدس، وأن صاحبه صلى فيه هاهنا وهاهنا، ثم نام وقد أوصاه أنه إذا بلغ الظل مكان كذا أن يوقظه، فتركه سلمان حينا آخر أزيد مما قال ليستريح.
فلما استيقظ ذكر الله، ولام سلمان على ترك ما أمره من ذلك، ثم خرجا من بيت المقدس فسأله مقعد، فقال: يا عبد الله سألتك حين وصلت فلم تعطني شيئا وها أنا أسألك، فنظر فلم يجد أحدا فأخذ بيده وقال: قم بسم الله، فقام وليس به بأس ولا قلبة، كأنما نشط من عقال.
فقال لي: يا عبد الله احمل علي متاعي حتى أذهب إلى أهلي فأبشرهم، فاشتغلت به ثم أدركت الرجل فلم ألحقه، ولم أدر أين ذهب، وكلما سألت عنه قوما قالوا: أمامك، حتى لقيني ركب من العرب من بني كلب، فسألتهم فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم بعيره فحملني خلفه، حتى أتوا بي بلادهم، فباعوني فاشترتني امرأة من الأنصار، فجعلتني في حائط لها.
وقدم رسول الله ﷺ، ثم ذكر ذهابه إليه بالصدقة والهدية ليستعلم ما قال صاحبه، ثم تطلب النظر إلى خاتم النبوة، فلما رآه آمن من ساعته، وأخبر رسول الله ﷺ خبره الذي جرى له.
قال: فأمر رسول الله ﷺ أبا بكر الصديق فاشتراه من سيده فأعتقه، ثم قال: سألته يوما عن دين النصارى فقال: لا خير فيهم، قال: فوقع في نفسي من أولئك الذين صحبتهم، ومن ذلك الرجل الصالح الذي كان معي ببيت المقدس، فدخلني من ذلك أمر عظيم حتى أنزل الله على رسول الله ﷺ: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } [المائدة: 82] .
فدعاني رسول الله ﷺ فجئت وأنا خائف، فجلست بين يديه فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.. } الآيات.
ثم قال: يا سلمان أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى كانوا مسلمين.
فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لهو أمرني باتباعك.
فقلت له: فإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه، قال: نعم فاتركه فإن الحق وما يرضي الله فيما يأمرك.
وفي هذا السياق غرابة كثيرة، وفيه بعض المخالفة لسياق محمد بن إسحاق، وطريق محمد بن إسحاق أقوى إسنادا، وأحسن اقتصاصا، وأقرب إلى ما رواه البخاري في (صحيحه) من حديث معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، عن أبيه، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي أنه تداوله بضعة عشر من رب إلى رب، أي: من معلم إلى معلم ومرب إلى مثله، والله أعلم.
قال السهيلي: تداوله ثلاثون سيدا من سيد إلى سيد، فالله أعلم.
وكذلك استقصى قصة إسلامه الحافظ أبو نعيم في (الدلائل) وأورد لها أسانيد وألفاظا كثيرة، وفي بعضها أن اسم سيدته التي كاتبته حلبسة، فالله أعلم.
ذكر أخبار غريبة في ذلك
قال أبو نعيم في (الدلائل) حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي، حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي السوية المنقري، حدثنا عباد بن كسيب، عن أبيه، عن أبي عتوارة الخزاعي، عن سعير بن سوادة العامري قال:
كنت عشيقا لعقيلة من عقائل الحي، أركب لها الصعب والذلول، لا أبقي من البلاد مسرحا أرجو ربحا في متجر إلا أتيته، فانصرفت من الشام بحرث وأثاث أريد به كبة الموسم ودهماء العرب، فدخلت مكة بليل مسدف، فأقمت حتى تعرى عني قميص الليل، فرفعت رأسي فإذا قباب مسامته شعف الجبال مضروبة بأنطاع الطائف، وإذا جزر تنحر، وأخرى تساق، وإذا أكلة وحثثة على الطهاة يقولون: ألا عجلوا ألا عجلوا.
وإذا رجل يجهر على نشز من الأرض ينادي: يا وفد الله ميلوا إلى الغداء، وأنيسان على مدرجة يقول: يا وفد الله من طعم فليرح إلى العشاء، فجهرني ما رأيت، فأقبلت أريد عميد القوم، فعرف رجل الذي بي فقال أمامك، وإذا شيخ كأن في خديه الأساريع، وكأن الشعرى توقد من جبينه، قد لاث على رأسه عمامة سوداء، قد أبرز من ملائها جمة فينانة كأنها سماسم.
قال في بعض الروايات: تحته كرسي سماسم، ومن دونها نمرقة، بيده قضيب متخصر به، حوله مشايخ، جلس نواكس الأذقان ما منهم أحد يفيض بكلمة، وقد كان نمى إلى خبر من أخبار الشام أن النبي الأمي هذا أوان نجومه، فلما رأيته ظننته ذلك.
فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فقال: مه مه كلا، وكأن قد وليتني إياه.
فقلت: من هذا الشيخ؟ فقالوا: هذا أبو نضلة، هذا هاشم بن عبد مناف، فوليت وأنا أقول: هذا والله المجد لا مجد آل جفنة - يعني ملوك عرب الشام من غسان كان يقال لهم آل جفنة - وهذه الوظيفة التي حكاها عن هاشم هي الرفادة: يعني إطعام الحجيج زمن الموسم.
وقال أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا محمد بن أحمد بن أبي يحيى، حدثنا سعيد بن عثمان، حدثنا علي بن قتيبة الخراساني، حدثنا خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، عن أبيه، عن جده قال: سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال:
بينا أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعا شديدا، فأتيت كاهنة قريش وعلي مطرف خز، وجمتي تضرب منكبي، فلما نظرت إلي عرفت في وجهي التغيير، وأنا يومئذ سيد قومي، فقالت: ما بال سيدنا قد أتانا متغير اللون؟ هل رابه من حدثان الدهر شيء؟
فقلت لها: بلى، وكان لا يكلمها أحد من الناس حتى يقبل يدها اليمنى، ثم يضع يده على أم رأسها، ثم يذكر حاجته، ولم أفعل لأني كبير قومي.
فجلست فقلت: إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة تنبت قد نال رأسها السماء، وضربت بأغصانها المشرق والمغرب، وما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا، ورأيت العرب والعجم ساجدين لها، وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا، ساعة تخفى وساعة تزهر، ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها.
ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخرهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها، ولا أطيب منه ريحا، فيكسر أظهرهم، ويقلع أعينهم، فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا، فمنعني الشاب فقلت: لمن النصيب؟ فقال: النصيب لهؤلاء الذين تعلقوا بها وسبقوك إليها، فانتبهت مذعورا فزعا، فرأيت وجه الكاهنة قد تغير ثم قالت:
لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب، ويدين له الناس، ثم قال: - يعني عبد المطلب - لأبي طالب: لعلك تكون هذا المولود. قال: فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث بعد ما ولد رسول الله ﷺ، وبعد ما بعث.
ثم قال: كانت الشجرة والله أعلم أبا القاسم الأمين، فيقال: لأبي طالب ألا تؤمن؟ فيقول: السبة والعار.
وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي، حدثنا العباس بن بكار الضبي، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال العباس خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب منهم أبو سفيان ابن حرب، فقدمت اليمن فكنت أصنع يوما طعاما وأنصرف بابي سفيان وبالنفر، ويصنع أبو سفيان يوما ويفعل مثلى ذلك.
فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه: هل لك يا أبا الفضل أن تنصرف إلى بيتي وترسل إلي غداءك؟ فقلت: نعم. فانصرفت أنا والنفر إلى بيته وأرسلت إلى الغداء، فلما تغدى القوم قاموا واحتبسني، فقال: هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول الله؟
فقلت: أي بني أخي؟ فقال أبو سفيان: إياي تكتم، وأي بني أخيك ينبغي أن يقول هذا إلا رجل واحد؟
قلت: وأيهم على ذلك؟
قال: هو محمد بن عبد الله. فقلت: قد فعل؟ قال: بلى قد فعل، وأخرج كتابا باسمه من ابنه حنظلة بن أبي سفيان فيه أخبرك أن محمدا قام بالأبطح، فقال: أنا رسول أدعوكم إلى الله عز وجل.
فقال العباس: قلت أجده يا أبا حنظلة صادق، فقال: مهلا يا أبا الفضل، فوالله ما أحب أن يقول مثل هذا، إني لا أخشى أن يكون على ضير من هذا الحديث يا بني عبد المطلب، إنه والله ما برحت قريش تزعم أن لكم هنة وهنة، كل واحدة منهما غاية لنشدتك يا أبا الفضل هل سمعت ذلك؟
قلت: نعم قد سمعت.
قال: فهذه والله شؤمتكم، قلت: فلعلها يمنتنا.
قال: فما كان بعد ذلك إلا ليال حتى قدم عبد الله بن حذافة بالخبر وهو مؤمن، ففشا ذلك في مجالس اليمن، وكان أبو سفيان يجلس مجلسا باليمن يتحدث فيه حبر من أحبار اليهود، فقال له اليهودي: ما هذا الخبر؟ بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال.
قال أبو سفيان: صدقوا وأنا عمه.
فقال اليهودي: أخو أبيه؟
قال: نعم.
قال: فحدثني عنه.
قال: لا تسألني ما أحب أن يدعى هذا الأمر أبدا، وما أحب أن أعيبه وغيره خير منه، فرأى اليهودي أنه لا يغمس عليه، ولا يحب أن يعيبه.
فقال اليهودي: ليس به بأس على اليهود وتوراة موسى.
قال العباس: فناداني الحبر فجئت فخرجت حتى جلست ذلك المجلس من الغد، وفيه أبو سفيان ابن حرب والحبر، فقلت للحبر: بلغني أنك سألت ابن عمي عن رجل منا زعم أنه رسول الله ﷺ وأخبرك أنه عمه، وليس بعمه، ولكن ابن عمه، وأنا عمه وأخو أبيه.
قال: أخو أبيه؟
قلت: أخو أبيه، فأقبل على أبي سفيان فقال: صدق؟
قال: نعم صدق.
فقلت: سلني، فإن كذبت فليرد علي، فأقبل علي فقال: نشدتك هل كان لابن أخيك صبوة أو سفهة. قلت: لا، وإله عبد المطلب ولا كذب ولا خان، وإنه كان اسمه عند قريش الأمين.
قال: فهل كتب بيده؟
قال: العباس فظننت أنه خير له أن يكتب بيده فأردت أن أقولها، ثم ذكرت مكان أبي سفيان يكذبني ويرد علي. فقلت: لا يكتب، فوثب الحبر ونزل رداؤه، وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود.
قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان: يا أبا الفضل إن اليهود تفزع من ابن أخيك، قلت: قد رأيت ما رأيت، فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به، فإن كان حقا كنت قد سبقت، وإن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك.
قال: لا أؤمن به حتى أرى الخيل في كداء.
قلت: ما تقول؟
قال: كلمة جاءت على فمي، إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع من كداء.
قال العباس: فلما استفتح رسول الله ﷺ مكة ونظرنا إلى الخيل وقد طلعت من كداء، قلت: يا أبا سفيان تذكر الكلمة؟
قال: إي والله إني لذاكرها، فالحمد لله الذي هداني للإسلام.
وهذا سياق حسن عليه البهاء والنور، وضياء الصدق، وإن كان في رجاله من هو متكلم فيه، والله أعلم.
وقد تقدم ما ذكرناه في قصة أبي سفيان مع أمية بن أبي الصلت، وهو شبيه بهذا الباب، وهو من أغرب الأخبار، وأحسن السياقات، وعليه النور، وسيأتي أيضا قصة أبي سفيان مع هرقل ملك الروم، حين سأله عن صفات رسول الله ﷺ وأحواله، واستدلاله بذلك على صدقه ونبوته، ورسالته.
وقال له: كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أكن أظن أنه فيكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقيه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ولئن كن ما تقول حقا ليملكن موضع قدمي هاتين وكذلك وقع، ولله الحمد والمنة.
وقد أكثر الحافظ أبو نعيم من إيراد الآثار والأخبار عن الرهبان، والأحبار، والعرب، فأكثر وأطنب وأحسن وأطيب، رحمه الله ورضي عنه. قصة عمرو بن مرة الجهني
قال الطبراني: حدثنا علي بن إبراهيم الخزاعي الأحوازي، حدثنا عبد الله بن داود بن دلهاث بن إسماعيل بن عبد الله بن شريح بن ياسر بن سويد صاحب رسول الله ﷺ، حدثنا أبي، عن أبيه دلهاث عن أبيه إسماعيل أن أباه عبد الله حدثه عن أبيه: أن أباه ياسر بن سويد حدثه عن عمرو بن مرة الجهني قال:
خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية، فرأيت في نومي وأنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة حتى وصل إلى جبل يثرب، وأشعر جهينة، فسمعت صوتا بين النور وهو يقول:
انقشعت الظلماء، وسطع الضياء، وبعث خاتم الأنبياء. ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة، وأبيض المدائن، وسمعت صوتا من النور وهو يقول:
ظهر الإسلام، وكسرت الأصنام، ووصلت الأرحام، فانتبهت فزعا فقلت لقومي: والله ليحدثن لهذا الحي من قريش حدث - وأخبرتهم بما رأيت - فلما انتهينا إلى بلادنا جاءني الخبر أن رجلا يقال له: أحمد قد بعث، فأتيته فأخبرته بما رأيت.
فقال لي: « يا عمرو بن مرة أنا النبي المرسل إلى العباد كافة، أدعوهم إلى الإسلام، وآمرهم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الله، ورفض الأصنام، وحج البيت، وصيام شهر رمضان، من اثني عشر شهرا، فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار، فآمن يا عمرو يؤمنك الله من هول جهنم ».
فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، آمنت بما جئت من حلال وحرام، وأن رغم ذلك كثيرا من الأقوام.
ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به، وكان لنا صنم، وكان أبي سادنا له، فقمت إليه فكسرته، ثم لحقت بالنبي ﷺ وأنا أقول
شهدت بأن الله حق وإنني * لآلهة الأحجار أول تارك
وشمرت عن ساق الإزار مهاجرا * إليك أجوب القفر بعد الدكادك
لأصحب خير الناس نفسا ووالدا * رسول مليك الناس فوق الحبائك
فقال النبي ﷺ: « مرحبا بك يا عمرو بن مرة ».
فقلت: يا رسول الله ابعثني إلى قومي لعل الله يمن عليهم بي كما من علي بك.
فبعثني إليهم وقال: « عليك بالرفق والقول السديد، ولا تكن فظا ولا متكبرا ولا حسودا ».
فذكر أنه أتى قومه فدعاهم إلى ما دعاه إليه رسول الله ﷺ فأسلموا كلهم، إلا رجلا واحدا منهم، وأنه وفد بهم إلى رسول الله ﷺ فرحب بهم وحياهم.
وكتب لهم كتابا هذه نسخته: « بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من الله العزيز، على لسان رسول الله ﷺ بكتاب صادق، وحق ناطق، مع عمرو بن مرة الجهني، لجهينة بن زيد: إن لكم بطون الأرض وسهولها، وتلاع الأودية وظهورها، تزرعون نباته، وتشربون صافيه، على أن تقروا بالخمس، وتصلوا صلاة الخمس، وفي التبيعة والصريمة، إن اجتمعتا وإن تفرقتا شاة شاة، ليس على أهل الميرة صدقة، ليس الوردة اللبقة، وشهد على نبينا ﷺ من حضر من المسلمين بكتاب قيس بن شماس ».
وذكر شعرا قاله عمرو بن مرة في ذلك، كما هو مبسوط في المسند الكبير، وبالله الثقة وعليه التكلان.
وقال الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقا غَلِيظا } [الأحزاب: 7] .
قال كثيرون من السلف لما: أخذ الله ميثاق بني آدم: يوم (ألست بربكم) أخذ من النبيين ميثاقا خاصا، وأكد مع هؤلاء الخمسة أولي العزم، أصحاب الشرائع الكبار، الذين أولهم نوح، وآخرهم محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقد روى الحافظ أبو نعيم في كتاب (دلائل النبوة) من طرق عن الوليد بن مسلم: حدثنا الأوزاعي، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: سُئل النبي ﷺ متى وجبت لك النبوة؟
قال: « بين خلق آدم ونفخ الروح فيه ». 1
وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن الزبير الحلبي، حدثنا أبو جعفر النفيلي، حدثنا عمرو بن واقد، عن عروة بن رويم، عن الصنابحي قال:
قال عمر: يا رسول الله، متى جعلت نبيا؟
قال: « وآدم منجدل في الطين ».
ثم رواه من حديث نصر بن مزاحم، عن قيس بن الربيع، عن جابر الجعفي، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟
قال: « وآدم بين الروح والجسد ».
وفي الحديث الذي أوردناه في قصة آدم حين استخرج الله من صلبه ذريته، خصَّ الأنبياء بنور بين أعينهم، والظاهر - والله أعلم - أنه كان على قدر منازلهم ورتبهم عند الله، وإذا كان الأمر كذلك فنور محمد ﷺ كان أظهر وأكبر وأعظم منهم كلهم. وهذا تنويه عظيم، وتنبيه ظاهر على شرفه وعلو قدره.
وفي هذا المعنى الحديث الذي قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله ﷺ:
« إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات المؤمنين يرين ».
ورواه الليث وابن وهب، عن عبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح وزاد: « إن أمه رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثما منصور بن سعيد، عن بديل عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر قال:
قلت يا رسول الله متى كنت نبيا؟
قال: « وآدم بين الروح والجسد ». وإسناده جيد أيضا.
وهكذا رواه إبراهيم بن طهمان، وحماد بن زيد، وخالد الحذاء، عن بديل بن ميسرة به.
ورواه أبو نعيم عن محمد بن عمر بن أسلم، عن محمد بن بكر بن عمرو الباهلي، عن شيبان، عن الحسن بن دينار، عن عبد الله بن سفيان، عن ميسرة الفجر قال:
قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟
قال: « وآدم بين الروح والجسد ».
وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه (دلائل النبوة): حدثنا أبو عمرو بن حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، عن خليد بن دعلج وسعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ في قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ } قال: « كنت أول النبيين في الخلق، وآخرهم في البعث ».
ثم رواه من طريق هشام بن عمار، عن بقية، عن سعيد بن نسير، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة مرفوعا مثله.
وقد رواه من طريق سعيد بن أبي عروبة وشيبان، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رسول الله ﷺ قال مثله، وهذا أثبت وأصح، والله أعلم.
وهذا إخبار عن التنويه بذكره في الملأ الأعلى، وأنه معروف بذلك بينهم بأنه خاتم النبيين وآدم لم ينفخ فيه الروح، لأن علم الله تعالى بذلك سابق قبل خلق السموات والأرض لا محالة، فلم يبق إلا هذا الذي ذكرناه من الأعلام به في الملأ الأعلى، والله أعلم.
وقد أورد أبو نعيم من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة الحديث المتفق عليه: « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم ».
وزاد أبو نعيم في آخره: فكان ﷺ آخرهم في البعث، وبه ختمت النبوة، وهو السابق يوم القيامة لأنه أول مكتوب في النبوة والعهد.
ثم قال: ففي هذا الحديث الفضيلة لرسول الله ﷺ، لما أوجب الله له النبوة قبل تمام خلق آدم، ويحتمل أن يكون هذا الإيجاب هو ما أعلم الله ملائكته ما سبق في علمه وقضاءه من بعثته له في آخر الزمان، وهذا الكلام يوافق ما ذكرناه ولله الحمد.
وروى الحاكم في (مستدركه) من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم - وفيه كلام - عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: « لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي. فقال الله: يا آدم كيف عرفت محمدا ولم أخلقه بعد؟ فقال: يا رب، لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت علي قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلي اسمك إلا أحب الخلق إليك. فقال الله: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي، وإذ قد سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك ». 2
وقد قال الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [آل عمران: 81-82] .
قال علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيا من الأنبياء، إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد ﷺ وهو حي ليؤمنن به، ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به، ولينصرنه، وهذا تنويه وتنبيه على شرفه وعظمته في سائر الملل، وعلى ألسنة الأنبياء، وإعلام لهم ومنهم برسالته في آخر الزمان. وإنه أكرم المرسلين، وخاتم النبيين.
وقد أوضح أمره، وكشف خبره، وبين سره، وجلى مجده ومولده وبلده إبراهيم الخليل، في قوله عليه السلام حين فرغ من بناء البيت: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [البقرة: 129] .
فكان أول بيان أمره على الجلية والوضوح بين أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل، أكرم الأنبياء على الله بعد محمد صلوات الله عليه وسلامه عليهما وعلى سائر الأنبياء.
ولهذا قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج - يعني ابن فضالة - حدثنا لقمان بن عامر، سمعت أبا أمامة قال: قلت: يا نبي الله، ما كان بدء أمرك؟
قال: « دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام ».
تفرد به الإمام أحمد، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.
وروى الحافظ أبو بكر ابن أبي عاصم في كتاب (المولد) من طريق بقية، عن صفوان بن عمرو بن حجر، عن حجر، عن أبي مريق أن أعرابيا قال:
يا رسول الله أي شيء كان أول أمر نبوتك؟
فقال: « أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم، ورأت أم رسول الله ﷺ في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام ».
وقال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله ﷺ أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك؟
قال: « دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حبلت كأنه خرج منها نور أضاءت له بصرى من أرض الشام ».
إسناده جيد أيضا، وفيه بشارة لأهل محلتنا أرض بصرى، وإنها أول بقعة من أرض الشام، خلص إليها نور النبوة، ولله الحمد والمنة، ولهذا كانت أول مدينة فتحت من أرض الشام، وكان فتحها صلحا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، كما سيأتي بيانه.
وقد قدمها رسول الله ﷺ مرتين في صحبة عمه أبي طالب، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وكانت عندها قصة بحيرى الراهب كما بيناه، والثانية ومعه ميسرة مولى خديجة في تجارة لها، وبها مبرك الناقة التي يقال لها ناقة رسول الله ﷺ بركت عليه، فأثر ذلك فيها فيما يذكر.
ثم نقل وبنى عليه مسجد مشهور اليوم، وهي المدينة التي أضاءت أعناق الإبل عندها من نور النار التي خرجت من أرض الحجاز سنة أربع وخمسين وستمائة، وفق ما أخبر به رسول الله ﷺ في قوله: « تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ».
وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
وقال الله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الآية [الأعراف: 157] .
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل عن الجريري، عن أبي صخر العقيلي، حدثني رجل من الأعراب قال: جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله ﷺ.
فلما فرغت من بيعي قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجملهم.
فقال رسول الله ﷺ: « أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجدني في كتابك ذا صفتي ومخرجي؟ ».
فقال برأسه هكذا - أي لا - فقال ابنه: إي والذي أنزل التوراة، إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال: « أقيموا اليهودي عن أخيكم ».
ثم ولى كفنه، والصلاة عليه.
هذا إسناد جيد، وله شواهد في (الصحيح): عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا عبد الواحد بن غياث - أبو بحر - حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن الصلتان بن عاصم، وذكر أن خاله قال: كنت جالسا عند النبي ﷺ، إذ شخص بصره إلى رجل فإذا يهودي عليه قميص وسراويل ونعلان، قال: فجعل النبي ﷺ يكلمه، وهو يقول: يا رسول الله.
فقال رسول الله ﷺ: « أتشهد أني رسول الله؟ »
قال: لا.
قال رسول الله ﷺ: « أتقرأ التوراة؟ »
قال: نعم.
قال: « أتقرأ الإنجيل؟ »
قال: نعم.
قال: « والقرآن؟ »
قال: لا، ولو تشاء قرأته، فقال النبي ﷺ: « فبم تقرأ التوراة والإنجيل أتجدني نبيا؟ » قال: إنا نجد نعتك ومخرجك، فلما خرجت رجونا أن تكون فينا، فلما رأيناك عرفناك أنك لست به.
قال رسول الله ﷺ: « ولم يا يهودي؟ »
قال: إنا نجده مكتوبا: يدخل من أمته الجنة سبعون ألفا بغير حساب، ولا نرى معك إلا نفرا يسيرا. فقال رسول الله ﷺ: « إن أمتي لأكثر من سبعين ألفا وسبعين ألفا ». 3
وقال محمد بن إسحاق: عن سالم مولى عبد الله بن مطيع، عن أبي هريرة قال: أتى رسول الله ﷺ يهود فقال: « أخرجوا أعلمكم ».
فقالوا: عبد الله بن صوريا.
فخلا به رسول الله ﷺ فناشده بدينه، وما أنعم الله به عليهم، وأطعمهم من المن والسلوى، وظللهم به من الغمام: « أتعلمني رسول الله؟ »
قال: اللهم نعم، وإن القوم ليعرفون ما أعرف، وأن صفتك ونعتك لمبين في التوراة، ولكنهم حسدوك. قال: « فما يمنعك أنت؟ ».
قال: أكره خلاف قومي، وعسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلم.
وقال سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقول: كتب رسول الله ﷺ إلى يهود خيبر: « بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه والمصدق بما جاء به موسى، ألا إن الله قال لكم: يا معشر يهود وأهل التوراة إنكم تجدون ذلك في كتابكم: إن محمدا: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعا سُجَّدا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرا عَظِيما } [الفتح: 29] . وإني أنشدكم بالله وبالذي أنزل عليكم، وأنشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسلافكم وأسباطكم المن والسلوى، وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاكم من فرعون وعمله، إلا أخبرتمونا هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم، قد تبين الرشد من الغي، وأدعوكم إلى الله وإلى نبيه ﷺ ».
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب (المبتدأ) عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن كعب الأحبار.
وروى غيره عن وهب بن منبه أن بختنصر بعد أن خرب بيت المقدس، واستذل بني إسرائيل بسبع سنين، رأى في المنام رؤيا عظيمة هالته، فجمع الكهنة والحزار وسألهم عن رؤياه تلك، فقالوا: ليقصها الملك حتى نخبره بتأويلها، فقال: إني نسيتها، وإن لم تخبروني بها إلى ثلاثة أيام قتلتكم عن آخركم.
فذهبوا خائفين وجلين من وعيده، فسمع بذلك دانيال عليه السلام وهو في سجنه، فقال للسجان: اذهب إليه، فقل له إن هاهنا رجلا عنده علم رؤياك وتأويلها، فذهب إليه فأعلمه فطلبه، فلما دخل عليه لم يسجد له.
فقال له: ما منعك من السجود لي؟ فقال: إن الله آتاني علما، وعلمني وأمرني أن لا أسجد لغيره. فقال له بختنصر: إني أحب الذين يوفون لأربابهم بالعهود، فأخبرني عن رؤياي؟ قال له دانيال: رأيت صنما عظيما رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء، أعلاه من ذهب، ووسطه من فضة، وأسفله من نحاس، وساقاه من حديد، ورجلاه من فخار.
فبينا أنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه، وإحكام صنعته، قذفه الله بحجر من السماء، فوقع على قمة رأسه حتى طحنه، واختلط ذهبه وفضته ونحاسه وحديده وفخاره، حتى تخيل لك أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك.
ونظرت إلى الحجر الذي قذف به يربو ويعظم وينتشر، حتى ملأ الأرض كلها، فصرت لا ترى إلا الحجر والسماء، فقال له بختنصر: صدقت هذه الرؤيا التي رأيتها، فما تأويلها؟
فقال دانيال: أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان، وفي وسطه، وفي آخره، وأما الحجر الذي قذف به الصنم، فدين يقذف الله به هذه الأمم في آخر الزمان، فيظهره عليها، فيبعث الله نبيا أميا من العرب، فيدوخ به الأمم والأديان، كما رأيت الحجر دوخ أصناف الصنم.
ويظهر على الأديان والأمم، كما رأيت الحجر ظهر على الأرض كلها، فيمحص الله به الحق، ويزهق به الباطل، ويهدي به أهل الضلالة، ويعلم به الأميين، ويقوي به الضعفة، ويعز به الأذلة، وينصر به المستضعفين.
وذكر تمام القصة في إطلاق بختنصر بني إسرائيل على يدي دانيال عليه السلام.
وذكر الواقدي بأسانيده عن المغيرة بن شعبة في قصة وفوده على المقوقس ملك الإسكندرية، وسؤاله له عن صفات رسول الله ﷺ قريباُ من سؤال هرقل لأبي سفيان صخر بن حرب. وذكر أنه سأل أساقفة النصارى في الكنائس عن صفة رسول الله ﷺ وأخبروه عن ذلك، وهي قصة طويلة ذكرها الحافظ أبو نعيم في (الدلائل).
وثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ مر بمدارس اليهود فقال لهم: « يا معشر اليهود، أسلموا فوالذي نفسي بيده إنكم لتجدون صفتي في كتبكم » الحديث.
وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفات رسول الله ﷺ في التوراة؟
فقال: أجل والله، إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيموا الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، يفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
ورواه البخاري عن محمد بن سنان العوفي، عن فليح به.
ورواه أيضا عن عبد الله - قيل: ابن رجاء وقيل: ابن صالح - عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلال بن علوية، ولفظه قريب من هذا، وفيه زيادة.
ورواه ابن جرير من حديث فليح، عن هلال، عن عطاء، وزاد قال عطاء: فلقيت كعبا فسألته عن ذلك، فما اختلف حرفا.
وقال في البيوع: وقال سعيد عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن سلام.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرناه أبو الحسين بن المفضل القطان، حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن ابن سلام أنه كان يقول:
إنا لنجد صفة رسول الله ﷺ، إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميته المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزئ السيئة بمثلها، ولكن يعفو، و يغفر، ويتجاوز، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله، يفتح به أعينا عميا، وأذانا صما، وقلوبا غلفا.
وقال عطاء بن يسار: وأخبرني الليثي أنه سمع كعب الأحبار يقول مثل ما قال ابن سلام.
قلت: وهذا عن عبد الله بن سلام أشبه، ولكن الرواية عن عبد الله بن عمرو أكثر، مع أنه كان قد وجد يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، وكان يحدث عنهما كثيرا، وليعلم أن كثيرا من السلف كانوا يطلقون التوراة على كتب أهل الكتاب، فهي عندهم أعم من التي أنزلها الله على موسى. وقد ثبت شاهد ذلك من الحديث.
وقال يونس عن محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن ابن أبي أوفى، عن أم الدرداء قالت: قلت لكعب الأحبار كيف تجدون صفة رسول الله ﷺ في التوراة؟
قال: نجده محمد رسول الله، اسمه المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، وأعطى المفاتيح، فيبصر الله به أعينا عورا، ويسمع آذانا وقرا، ويقيم به ألسنا معوجة، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله واحد لا شريك له، يعين به المظلوم ويمنعه. وقد روي عن كعب من غير هذا الوجه.
وروى البيهقي عن الحاكم، عن أبي الوليد الفقيه، عن الحسن بن سفيان، حدثنا عتبة بن مكرم، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم، حدثنا حمزة بن الزيات، عن سليمان الأعمش، عن علي بن مدرك، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة: { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } [القصص: 46]
قال: نودوا يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني.
وذكر وهب بن منبه أن الله تعالى أوحى إلى داود في الزبور يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، صادقا سيدا، لا أغضب عليه أبدا، ولا يغضبني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني، ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة، أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وفرضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء، إلى أن قال: يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلها.
والعلم بأنه موجود في كتب أهل الكتاب معلوم من الدين ضرورة، وقد دل على ذلك آيات كثيرة في الكتاب العزيز، تكلمنا عليها في مواضعها، ولله الحمد.
فمن ذلك قوله تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } [القصص: 52-53] .
وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 146] .
وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } [الإسراء: 107-108] أي: إن كان وعدنا ربنا بوجود محمد وإرساله لكائن لا محالة، فسبحان القدير على ما يشاء، لا يعجزه شيء.
وقال تعالى إخبارا عن القسيسين والرهبان: { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } [المائدة: 83]
وفي قصة النجاشي، وسلمان، وعبد الله بن سلام، وغيرهم، كما سيأتي شواهد كثيرة لهذا المعنى، ولله الحمد والمنة.
وذكرنا في تضاعيف قصص الأنبياء، ما تقدم الإشارة إليه من وصفهم لبعثة رسول الله ﷺ، ونعته، وبلد مولده، ودار مهاجره، ونعت أمته، في قصة موسى، وشعيا، وأرمياء، ودانيال، وغيرهم.
وقد أخبر الله تعالى عن آخر أنبياء بني إسرائيل، وخاتمهم عيسى بن مريم، أنه قام في بني إسرائيل خطيبا قائلا لهم { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [الصف: 6]
وفي الإنجيل: البشارة بالفارقليط، والمراد: محمد ﷺ.
وروى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن العيزار بن حرب، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: « مكتوب في الإنجيل لا فظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، بل يعفو ويصفح »
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا فيض البجلي، حدثنا سلام بن مسكين، عن مقاتل بن حيان قال: أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم: جد في أمري، واسمع، وأطع يا ابن الطاهرة البكر البتول، أنا خلقتك من غير فحل، فجعلتك آية للعالمين، فإياي فاعبد، و علي فتوكل، فبين لأهل سوران بالسريانية، بلغ من بين يديك:
إني أنا الحق القائم، الذي لا أزول، صدقوا بالنبي الأمي العربي، صاحب الجمل والمدرعة والعمامة - وهي التاج - والنعلين والهراوة - وهي القضيب - الجعد الرأس، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأنجل العينين، الأهدب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين، الكث اللحية، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، ريح المسك ينضح منه. كأن عنقه إبريق فضة، وكأن الذهب يجري في تراقيه، له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب، ليس في بطنه شعر غير شثن الكف والقدم، إذا جاء مع الناس غمرهم، وإذا مشى كأنما ينقلع من الصخر، ويتحدر من صبب، ذو النسل القليل - وكأنه أراد الذكور من صلبه.
هكذا رواه البيهقي في (دلائل النبوة) من طريق يعقوب بن سفيان.
وروى البيهقي عن عثمان بن الحكم بن رافع بن سنان: حدثني بعض عمومتي وآبائي، أنهم كانت عندهم ورقة يتوارثونها في الجاهلية، حتى جاء الله بالإسلام وبقيت عندهم، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة ذكر وهاله، وأتوه بها مكتوب فيها: بسم الله وقوله الحق، وقول الظالمين في تباب، هذا الذكر لأمة تأتي في آخر الزمان، ليبلون أطرافهم، ويوترون على أوساطهم، ويخوضون البحور إلى أعدائهم، فيهم صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان، وفي عاد ما أهلكوا بالريح، وفي ثمود ما أهلكوا بالصيحة:
بسم الله وقوله الحق، وقول الظالمين في تباب. ثم ذكر قصة أخرى، قال: فعجب رسول الله ﷺ لما قرأت عليه فيها.
وذكرنا عند قوله تعالى في سورة الأعراف: { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } قصة هشام بن العاص الأموي، حين بعثه الصديق في سرية إلى هرقل يدعوه إلى الله عز وجل، فذكر أنه أخرج لهم صور الأنبياء في رقعة من آدم إلى محمد صلوات الله عليه وسلامه عليهم أجمعين، على النعت والشكل الذي كانوا عليه.
ثم ذكر أنه لما أخرج صورة رسول الله ﷺ قام قائما إكراما له، ثم جلس وجعل ينظر إليها ويتأملها، قال: فقلنا له من أين لك هذه الصورة؟ فقال: إن آدم سأل ربه أن يريه جميع الأنبياء من ذلك، فأنزل عليه صورهم، فكان في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين، فدفعها إلى دانيال.
ثم قال: أما والله إن نفسي قد طابت بالخروج من ملكي، وأني كنت عبدا لاشركم ملكة حتى أموت، ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق فحدثناه بما رأينا وما أجازنا وما قال لنا، قال: فبكى، وقال: مسكين لو أراد الله به خيرا لفعل.
ثم قال: أخبرنا رسول الله ﷺ أنهم واليهود يجدون نعت محمد عندهم. رواه الحاكم بطوله فليكتب هاهنا من التفسير. ورواه البيهقي في (دلائل النبوة)
وقال الأموي: حدثنا عبد الله بن زياد، عن ابن إسحاق قال: وحدثني يعقوب بن عبد الله بن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، عن جده عمرو بن أمية قال: قدمت برقيق من عند النجاشي أعطانيهم فقالوا لي: ياعمرو لو رأينا رسول الله لعرفناه من غير أن تخبرنا، فمر أبو بكر فقلت: أهو هذا؟
قالوا: لا. فمر عمر فقلت: أهو هذا؟
قالوا: لا. فدخلنا الدار فمر رسول الله ﷺ فنادوني: يا عمرو هذا رسول الله ﷺ، فنظرت فإذا هو هو، من غير أن يخبرهم به أحد، عرفوه بما كانوا يجدونه مكتوبا عندهم.
وقد تقدم إنذار سبأ لقومه، وبشارته لهم بوجود رسول الله ﷺ في شعر أسلفناه في ترجمته، فأغنى عن إعادته.
وتقدم قول الحبرين من اليهود لتبع اليماني حين حاصر أهل المدينة: إنها مهاجر نبي، يكون في آخر الزمان، فرجع عنها ونظم شعرا يتضمن السلام على النبي ﷺ.
ملاحظات
هامش
وهكذا رواه الترمذي من طريق الوليد بن مسلم، وقال: حسن غريب من حديث أبي هريرة، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
قال البيهقي: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف، والله أعلم.
هذا حديث غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه.
قصة سيف بن ذي يزن وبشارته بالنبي
وقال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه (هواتف الجان): حدثنا علي بن حرب، حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم، حدثنا عمرو بن بكر - هو ابن بكار القعنبي - عن أحمد بن القاسم، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن عبد الله بن عباس قال:
لما ظهر سيف بن ذي يزن قال ابن المنذر - واسمه النعمان بن قيس - على الحبشة وذلك بعد مولد رسول الله ﷺ بسنتين، أتته وفود العرب وشعراؤها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من حسن بلائه، وأتاه فيمن أتاه وفود قريش، فيهم عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس أبي عبد الله، وعبد الله بن جدعان، وخويلد بن أسد، في أناس من وجوه قريش.
فقدموا عليه صنعاء، فإذا هو في رأس غمدان الذي ذكره أمية أبي الصلت:
واشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا * في رأس غمدان دارا منك محلالا
فدخل عليه الآذن فأخبره بمكانهم، فأذن لهم، فدنا عبد المطلب فاستأذنه في الكلام، فقال له: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك، فقد أذنا لك. فقال له عبد المطلب: إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا، وأنبتك منبتا طابت أرومته، وعذيت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه في أكرم موطن وأطيب معدن.
فأنت - أبيت اللعن - ملك العرب وربيعها الذي تخصب به البلاد، ورأس العرب الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد، وسلفك خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يخمد من هم سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه.
ونحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجك من كشف الكرب الذي قد فدحنا، وفد التهنئة لا وفد المرزئة.
قال له الملك: وأيهم أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم. قال: ابن أختنا؟ قال: نعم. قال: ادن، فأدناه، ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا، ومستناخا سهلا، وملكا ربحلا، يعطي عطاء جزلا، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فأنتم أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم.
ثم نهضوا إلى دار الكرامة والوفود، فأقاموا شهرا لا يصلون إليه، ولا يأذن لهم بالانصراف، ثم انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب فأدنى مجلسه وأخلاه، ثم قال: يا عبد المطلب إني مفض إليك من سر علمي ما لو يكون غيرك لم أبح به، ولكني رأيتك معدنه، فاطلعتك طليعه، فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه، فإن الله بالغ أمره.
إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون، الذي اخترناه لأنفسنا، واجتجناه دون غيرنا، خبرا عظيما، وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة للناس عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة.
فقال عبد المطلب: أيها الملك مثلك سر وبر، فما هو فداؤك أهل الوبر زمرا بعد زمر؟ قال: إذا ولد بتهامة غلام به علامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة.
قال عبد المطلب - أبيت اللعن -: لقد أبت بخير ما آب به وافد، ولولا هيبة الملك وإجلاله واعظامه، لسألته من بشارته إياي، ما ازداد به سرورا.
قال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه، أو قد ولد، واسمه محمد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، ولدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منا أنصارا، يعزبهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم كرائم أهل الأرض، يكسر الأوثان، ويخمد النيران، يعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
فقال عبد المطلب: أيها الملك - عز جدك، وعلا كعبك، ودام ملكك، وطال عمرك - فهذا نجاري، فهل الملك سار لي بافصاح، فقد أوضح لي بعض الإيضاح.
فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النقب، إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب، فخر عبد المطلب ساجدا فقال: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا أمرك، فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك؟
فقال: أيها الملك كان لي ابن، وكنت به معجبا، وعليه رفيقا، فزوجته كريمة من كرائم قومه آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته محمدا، فمات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه.
قال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لك كما قلت، فاحتفظ بابنك، واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخل لهم النفاسة، من أن تكون لكم الرياسة، فيطلبون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، فهم فاعلون أو أبناؤهم، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه، لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مملكته.
فإني أجد في الكتاب الناطق، والعلم السابق، أن بيثرب استحكام أمره، وأهل نصرته، وموضع قبره، ولولا أني أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأعلنت على حداثة سنه أمره، ولأوطأت أسنان العرب عقبه، ولكني صارف ذلك إليك، عن غير تقصير بمن معك.
قال: ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد، وعشرة إماء، وبمائة من الإبل، وحلتين من البرود، وبخمسة أرطال من الذهب، وعشرة أرطال فضة، وكرش مملوء عنبرا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك.
وقال له: إذا حال الحول فأتني. فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول. فكان عبد المطلب كثيرا ما يقول يا معشر قريش: لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك و إن كثر، فإنه إلى نفاد، ولكن ليبغبطني بما يبقى لي ولعقبي ومن بعدي، ذكره، وفخره، وشرفه، فإذا قيل له متى ذلك؟ قال: سيعلم ولو بعد.
قال: وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس:
جلبنا النصح تحقبه المطايا * على أكوار أجمال ونوق
مقلفة مراتعها تعالى * إلى صنعاء من فج عميق
تؤم بنا ابن ذي يزن وتغري * بذات بطونها ذم الطريق
وترعى من مخائله بروقا * مواصلة الوميض إلى بروق
فلما واصلت صنعاء حلت * بدار الملك والحسب العريق
وهكذا رواه الحافظ أبو نعيم في (الدلائل) من طريق عمرو بن بكير بن بكار القعنبي.
ثم قال أبو نعيم: أخبرت عن أبي الحسن علي بن إبراهيم بن عبد ربه بن محمد بن عبد العزيز بن عفير بن عبد العزيز بن السفر بن عفير بن زرعة بن سيف بن ذي يزن، حدثني أبي أبو يزن إبراهيم، حدثنا عمي أحمد بن محمد أبو رجاء به، حدثنا عمي محمد بن عبد العزيز، حدثني عبد العزيز بن عفير، عن أبيه، عن زرعة بن سيف بن ذي يزن الحميري قال: لما ظهر جدي سيف بن ذي يزن على الحبشة. وذكره بطوله.
وقال أبو بكر الخرائطي: حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق القلوسي، حدثنا العلاء بن الفضل بن أبي سوية، أخبرني أبي، عن أبيه عبد الملك بن أبي سوية، عن جده أبي سوية، عن أبيه خليفة قال: سألت محمد بن عثمان بن ربيعة بن سواة بن خثعم بن سعد فقلت: كيف سماك أبوك محمدا؟
فقال: سألت أبي عما سألتني عنه فقال: خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا منهم، وسفيان بن مجاشع بن دارم، وأسامة بن مالك بن جندب بن العقيد، ويزيد بن ربيعة بن كنانة بن حربوص بن مازن، ونحن نريد ابن جفنة ملك غسان، فلما شارفنا الشام نزلنا على غدير عليه شجرات فتحدثنا، فسمع كلامنا راهب فأشرف علينا فقال: إن هذه لغة ما هي بلغة هذه البلاد!
فقلنا: نعم نحن قوم من مضر. قال: من أي المضرين؟
قلنا: من خندف. قال: أما إنه سيبعث وشيكا نبي خاتم النبيين فسارعوا إليه، وخذوا بحظكم منه ترشدوا.
فقلنا له: ما اسمه؟ قال: اسمه محمد، قال: فرجعنا من عند ابن جفنة فولد لكل واحد منا ابن فسماه محمدا، يعني أن كل واحد منهم طمع في أن يكون هذا النبي المبشر به ولده.
وقال الحافظ أبو بكر الخرائطي: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، حدثنا حازم بن عقال بن الزهر بن حبيب بن المنذر بن أبي الحصين بن السموأل بن عاديا، حدثني جابر بن جدان بن جميع بن عثمان بن سماك بن الحصين بن السموأل بن عاديا قال: لما حضرت الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر الوفاة اجتمع إليه قومه من غسان فقالوا: إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى، وكنا نأمرك بالتزوج في شبابك فتأبى، وهذا أخوك الخزرج له خمسة بنين وليس لك ولد غير مالك.
فقال: لن يهلك هالك ترك مثل مالك، إن الذي يخرج النار من الوثيمة قادر أن يجعل لمالك نسلا ورجالا بسلا وكل إلى الموت.
ثم أقبل على مالك وقال: أي بني المنية ولا الدنية، العقاب ولا العتاب، التجلد ولا التلدد، القبر خير من الفقر، إنه من قل ذل، ومن كر فر، من كرم الكريم الدفع عن الحريم، ولدهر يومان فيوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصطبر، وكلاهما سينحسر، ليس يثبت منهما الملك المتوج، ولا اللئيم المعلهج، سلم ليومك حياك ربك، ثم أنشأ يقول:
شهدت السبايا يوم آل محرِّق * وأدرك أمري صيحة الله في الحجر
فلم أر ذا ملك من الناس واحدا * ولا سواقة إلا إلى الموت والقبر
فعل الذي أردى ثمودا وجرهما * سيعقب لي نسلا على آخر الدهر
تقربهم من آل عمرو بن عامر * عيون لدى الداعي إلى طلب الوتر
فإن لم تك الأيام أبلين جِدّتي * وشيّبن رأسي والمشيب مع العمر
فإن لنا ربا علا فوق عرشه * عليما بما يأتي من الخير والشر
ألم يأت قومي أن لله دعوة * يفوز بها أهل السعادة والبر
إذا بعث المبعوث من آل غالب * بمكة فيما بين مكة والحجر
هنالك فابغوا نصره ببلادكم * بني عامر إن السعادة في النصر
قال: ثم قضى من ساعته.
=======
باب في هواتف الجان
وقد تقدم كلام شق وسطيح لربيعة بن نصر ملك اليمن في البشارة بوجود رسول الله ﷺ، رسول ذكي يأتي إليه الوحي من قبل العلي، وسيأتي في المولد قول سطيح لعبد المسيح: إذا كثرت التلاوة، وغاضت بحيرة ساوة، وجاء صاحب الهراوة، يعني بذلك رسول الله ﷺ كما سيأتي بيانه مفصلا.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي، حدثني ابن وهب، حدثني عمرو - هو محمد بن زيد - أن سالما حدثه عن عبد الله بن عمر قال: ما سمعت عمر يقول لشيء قط إني لأظنه إلا كان كما يظن. بينما عمر بن الخطاب جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، علي الرجل، فدعى به فقال له ذلك فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجلا مسلما.
قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني. قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا في السوق يوما جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت:
ألم تر الجن وإبلاسها * ويلسها من بعد أنكاسها؟
ولحوقها بالقلاص وأحلاسها
قال عمر: صدق، بينا أنا نائم عند آلهتهم، جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول: يا جليح أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله، فوثب القوم فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى يا جليح أمر نجيح، رجل فصيح يقول لا إله إلا الله، فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي. تفرد به البخاري.
وهذا الرجل هو: سواد بن قارب الأردي، ويقال: السدوسي من أهل السراة من جبال البلقاء له صحبة ووفادة.
قال أبو حاتم، وابن منده: روى عنه سعيد بن جبير، وأبو جعفر محمد بن علي. وقال البخاري: له صحبة.
وهكذا ذكره في أسماء الصحابة أحمد بن روح البرذعي الحافظ، والدارقطني، وغيرهما.
وقال الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري: سواد بن قارب بالتخفيف.
وقال عثمان الوقاصي، عن محمد بن كعب القرظي: كان من أشراف أهل اليمن، ذكره أبو نعيم في (الدلائل) وقد روى حديثه من وجوه أخر مطولة بالبسط من رواية البخاري.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان أنه حدث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بينما هو جالس في الناس في مسجد رسول الله ﷺ إذ أقبل رجل من العرب داخل المسجد، يريد عمر بن الخطاب، فلما نظر إليه عمر قال: إن الرجل لعلى شركه ما فارقه بعد، أو لقد كان كاهنا في الجاهلية.
فسلم عليه الرجل ثم جلس، فقال له عمر: هل أسلمت؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فهل كنت كاهنا في الجاهلية؟
فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين، لقد خلت في واستقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت ما وليت، فقال عمر: اللهم غفرا قد كنا في الجاهلية على شر من هذا، نعبد الأصنام، ونعتنق الأوثان، حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام.
قال: نعم، والله يا أمير المؤمنين لقد كنت كاهنا في الجاهلية.
قال: فأخبرني ما جاء به صاحبك؟
قال: جاءني قبل الإسلام بشهر أو شيعه، فقال: ألم تر إلى الجن وإبلاسها وإياسها من دينها، ولحوقها بالقلاص وإحلاسها.
قال ابن إسحاق: هذا الكلام سجع ليس بشعر.
قال عبد الله بن كعب: فقال عمر عند ذلك يحدث الناس: والله إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قريش قد ذبح له رجل من العرب عجلا، فنحن ننتظر قسمه أن يقسم لنا منه، إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت صوتا قط أشد منه، وذلك قبل الإسلام بشهر أو شيعه، يقول: يا ذريح أمر نجيح، رجل يصيح يقول: لا إله إلا الله.
قال ابن هشام: ويقال: رجل يصيح بلسان فصيح يقول: لا إله إلا الله. قال وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر:
عجبت للجن وإبلاسها * وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما مؤمنو الجن كأنجاسها
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا يحيى بن حجر بن النعمان الشامي، حدثنا علي بن منصور الأنباري، عن محمد بن عبد الرحمن الوقاصي، عن محمد بن كعب القرظي قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم جالس، إذ مر به رجل فقيل: يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المار؟
قال: ومن هذا؟ قالوا: هذا سواد بن قارب الذي أتاه رئيه بظهور رسول الله ﷺ.
قال: فأرسل إليه عمر فقال له: أنت سواد بن قارب؟
قال: نعم، قال: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك؟
قال: فغضب، وقال: ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين! فقال عمر: يا سبحان الله ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك، فأخبرني ما أنبأك رئيك بظهور رسول الله ﷺ؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين، بينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، إذ أتاني رئي فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب واسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب، يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتطلابها * وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما صادق الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم * ليس قداماها كأذنابها
قال: قلت: دعني أنام، فإني أمسيت ناعسا.
قال: فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله، وقال: قم يا سواد بن قارب واسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته.
ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتحيارها * وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما مؤمنو الجن ككفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم * بين روابيها وأحجارها
قال: قلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعسا، فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتحساسها * وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما خير الجن كأنجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم * واسم بعينيك إلى راسها
قال: فقمت وقلت: قد امتحن الله قلبي، فرحلت ناقتي، ثم أتيت المدينة - يعني مكة - فإذا رسول الله ﷺ في أصحابه، فدنوت فقلت: اسمع مقالتي يا رسول الله، قال: هات. فأنشأت أقول:
أتاني نجيي بعد هدء ورقدة * ولم يك فيما قد تلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة * أتاك رسول من لؤي بن غالب
فشمرت عن ذيلي الإزار ووسطت * بي الدعلب الوجناء غبر السباسب
فأشهد أن الله لا شيء غيره * وأنك مأمون على كل غالب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة * إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى * وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة * سواك بمغن عن سواد بن قارب
قال: ففرح رسول الله ﷺ وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رؤي الفرح في وجوههم، قال: فوثب إليه عمر بن الخطاب فالتزمه وقال: قد كنت أشتهي أن أسمع هذا الحديث منك، فهل يأتيك رئيك اليوم؟
قال: أما منذ قرأت القرآن فلا، ونعم العوض كتاب الله من الجن.
ثم قال عمر: كنا يوما في حي من قريش يقال لهم: آل ذريح، وقد ذبحوا عجلا لهم والجزار يعالجه، إذ سمعنا صوتا من جوف العجل - ولا نرى شيئا - قال: يا آل ذريح: أمر نجيح، صائح يصيح، بلسان فصيح، يشهد أن لاإله إلا الله. وهذا منقطع من هذا الوجه. ويشهد له رواية البخاري، وقد تساعدوا على أن السامع الصوت من العجل هو عمر بن الخطاب، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه الذي جمعه في (هواتف الجان): حدثنا أبو موسى عمران بن موسى المؤدب، حدثنا محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا سعيد بن عبيد الله الوصابي، عن أبيه، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: دخل سواد بن قارب السدوسي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: نشدتك بالله يا سواد بن قارب هل تحسن اليوم من كهانتك شيئا؟
فقال: سبحان الله يا أمير المؤمنين، ما استقبلت أحدا من جلسائك بمثل ما استقبلتني به.
قال: سبحان الله يا سواد، ما كنا عليه من شركنا أعظم مما كنت عليه من كهانتك، والله يا سواد لقد بلغني عنك حديث إنه لعجيب من العجب.
قال: إي والله يا أمير المؤمنين إنه لعجب من العجب.
قال: فحدثنيه.
قال: كنت كاهنا في الجاهلية فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني نجي فضربني برجله، ثم قال: يا سواد اسمع أقل لك.
قلت: هات. قال:
عجبت للجن وأنجاسها * ورحلها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم * واسم بعينيك إلى رأسها
قال: فنمت ولم أحفل بقوله شيئا، فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله، ثم قال لي: قم يا سواد بن قارب اسمع أقل لك. قلت: هات. قال:
عجبت للجن وتطلابها * وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما صادق الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم * ليس المقاديم كأذنابها
قال: فحرك قوله مني شيئا ونمت، فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله، ثم قال: يا سواد بن قارب أتعقل أم لا تعقل؟
قلت: وما ذاك. قال: ظهر بمكة نبي يدعو إلى عبادة ربه فالحق به، اسمع أقل لك.
قلت: هات.
قال:
عجبت للجن وتنفارها * ورحلها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما مؤمنو الجن ككفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم * بين روابيها وأحجارها
قال: فعلمت أن الله قد أراد بي خيرا فقمت إلى بردة لي ففتقتها ولبستها، ووضعت رجلي في غرز ركاب الناقة، وأقبلت حتى انتهيت إلى النبي ﷺ، فعرض علي الإسلام فأسلمت، وأخبرته الخبر فقال: « إذا اجتمع المسلمون فأخبرهم ».
فلما اجتمع المسلمون قمت فقلت:
أتاني نجي بعد هدء ورقدة * ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة * أتاك رسول من لؤي بن غالب
فشمرت عن ذيلي الأزار ووسطت * بي الدعلب الوجناء غبر السباسب
وأعلم أن الله لا رب غيره * وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة * إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل * وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
قال: فسر المسلمون بذلك، فقال عمر: هل تحس اليوم منها بشيء؟
قال: أما إذ علمني الله القرآن فلا.
وقد رواه محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، عن عمر بن حفص قال: لما ورد سواد بن قارب على عمر قال: يا سواد بن قارب ما بقي من كهانتك؟ فغضب وقال: ما أظنك يا أمير المؤمنين استقبلت أحدا من العرب بمثل هذا، فلما رأى ما في وجهه من الغضب قال: انظر سواد للذي كنا عليه قبل اليوم من الشرك أعظم.
ثم قال: يا سواد حدثني حديثا كنت أشتهي أسمعه منك، قال: نعم، بين أنا في إبل لي بالسراة ليلا وأنا نائم، وكان لي نجي من الجن أتاني، فضربني برجله فقال لي: قم يا سواد بن قارب فقد ظهر بتهامة نبي يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فذكر القصة كما تقدم، وزاد في آخر الشعر:
وكن لي شفيعا يوم لا ذو قرابة * سواك بمغن عن سواد بن قارب
فقال رسول الله ﷺ: « سر في قومك وقل هذا الشعر فيهم ».
ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق سليمان بن عبد الرحمن، عن الحكم بن يعلى بن عطاء المحاربي، عن عباد بن عبد الصمد، عن سعيد بن جبير قال: أخبرني سواد بن قارب الأزدي قال: كنت نائما على جبل من جبال السراة، فأتاني آت فضربني برجله، وذكر القصة أيضا.
ورواه أيضا من طريق محمد بن البراء، عن أبي بكر ابن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: قال سواد بن قارب: كنت نازلا بالهند فجاءني رئي ذات ليلة فذكر القصة. وقال بعد إنشاد الشعر الأخير:
فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه وقال: « أفلحت يا سواد ».
وقال أبو نعيم في كتاب (دلائل النبوة): حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا عبد الرحمن بن الحسن علي بن حرب، حدثنا أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله العماني قال:
كان منا رجل يقال له مازن بن العضوب يسدن صنما بقرية يقال لها سمايا من عمان، وكانت تعظمه بنو الصامت، وبنو حطامة، ومهرة - وهم أخوال مازن - أمه زينب بنت عبد الله بن ربيعة بن خويص أحد بني نمران.
قال مازن: فعترنا يوما عند الصنم عتيرة - وهي الذبيحة - فسمعت صوتا من الصنم يقول: يا مازن اسمع تسر ظهر خير وبطن شر، بعث نبي من مضر بدين الله الأكبر، فدع نحيتا من حجر، تسلم من حر سقر.
قال: ففزعت لذلك فزعا شديدا، ثم عترنا بعد أيام عتيرة أخرى، فسمعت صوتا من الصنم يقول: أقبل إلي، أقبل تسمع ما لا تجهل، هذا نبي مرسل، جاء بحق منزل، فآمن به كي تعدل عن حر نار تشعل، وقودها الجندل.
قال مازن: فقلت: إن هذا لعجب، وإن هذا لخير يراد بي، وقدم علينا رجل من الحجاز فقلت: ما الخبر وراءك؟ فقال: ظهر رجل يقال له أحمد، يقول لمن أتاه: أجيبوا داعي الله.
فقلت: هذا نبأ ما سمعت، فثرت إلى الصنم فكسرته جذاذا، وركبت راحلتي حتى قدمت على رسول الله ﷺ فشرح الله صدري للإسلام فأسلمت، وقلت:
كسرت باجرا أجذاذا وكان لنا * ربا نطيف به ضلا بتضلال
فالهاشمي هدانا من ضلالتنا * ولم يكن دينه مني على بال
يا راكبا بلِّغن عمرا وإخوتها * إني لمن قال ربي باجر قالي
يعني يعمرو الصامت وإخوتها حطامة. فقلت يا رسول الله: إني امرؤ مولع بالطرب، وبالهلوك من النساء وشرب الخمر، وألحت علينا السنون فأذهبن الأموال، وأهزلن السراري، وليس لي ولد، فادعُ الله أن يذهب عني ما أجد ويأتينا بالحيا، ويهب لي ولدا.
فقال النبي ﷺ: « اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، وبالإثم وبالعهر عفة، وآته بالحيا وهب له ولدا ».
قال: فأذهب الله عني ما أجد، وأخصبت عمان، وتزوجت أربع حرائر، وحفظت شطر القرآن، ووهب لي حيان بن مازن، وأنشأ يقول:
إليك رسول الله خبت مطيتي * تجوب الفيافي من عمان إلى العرج
لتشفع لي يا خير من وطىء الحصى * فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج
إلى معشر خالفت في الله دينهم * فلا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي
وكنت امرءا بالخمر والعهر مولعا * شبابي حتى آذن الجسم بالنهج
فبدلني بالخمر خوفا وخشية * وبالعهر إحصانا فحصن لي فرجي
فأصبحت همي في الجهاد ونيتي * فلله ما صومي ولله ما حجي
قال: فلما أتيت قومي أنبوني وشتموني، وأمروا شاعرا لهم فهجاني، فقلت: إن رددت عليه فإنما أهجو نفسي، فرحلت عنهم فأتتني منهم زلفة عظيمة، وكنت القيم بأمورهم.
فقالوا: يا ابن عم عبنا عليك أمرا وكرهنا ذلك، فإن أبيت ذلك فارجع، وقم بأمورنا، وشأنك وما تدين، فرجعت معهم وقلت:
لبغضكم عندنا مر مذاقته * وبغضنا عندكم يا قومنا لبن
لا يفطن الدهر إن بثت معائبكم * وكلكم حين يثني عيبنا فطن
شاعرنا مفحم عنكم وشاعركم * في حدبنا مبلغ في شتمنا لسن
ما في القلوب عليكم فاعلموا وغر * وفي قلوبكم البغضاء والإحن
قال مازن: فهداهم الله بعد إلى الاسلام جميعا.
وروى الحافظ أبو نعيم من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: إن أول خبر كان بالمدينة بمبعث رسول الله ﷺ: أن امرأة بالمدينة كان لها تابع من الجن، فجاء في صورة طائر أبيض، فوقع على حائط لهم. فقالت له: لم لا تنزل إلينا فتحدثنا ونحدثك، وتخبرنا ونخبرك؟
فقال لها: إنه قد بعث نبي بمكة، حرم الزنا، ومنع منا القرار.
وقال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن علي بن الحسين قال: إن أول خبر قدم المدينة عن رسول الله ﷺ: أن امرأة تدعى فاطمة كان لها تابع، فجاءها ذات يوم فقام على الجدار، فقالت: ألا تنزل؟
فقال: لا إنه قد بعث الرسول الذي حرم الزنا.
وأرسله بعض التابعين أيضا وسماه بابن لوذان، وذكر أنه كان قد غاب عنها مدة، ثم لما قدم عاتبته فقال: إني جئت الرسول فسمعته يحرم الزنا فعليك السلام.
وقال الواقدي: حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: قال عثمان بن عفان: خرجنا في عير إلى الشام - قبل أن يبعث رسول الله ﷺ - فلما كنا بأفواه الشام - وبها كاهنة - فتعرضتنا فقالت: أتاني صاحبي فوقف على بابي فقلت: ألا تدخل؟
فقال: لا سبيل إلى ذلك خرج أحمد، وجاء أمر لا يطاق. ثم انصرفت فرجعت إلى مكة فوجدت رسول الله ﷺ قد خرج بمكة، يدعو إلى الله عز وجل.
و قال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله الزهري قال: كان الوحي يسمع، فلما كان الإسلام منعوا، وكانت امرأة من بني أسد يقال لها سعيرة لها تابع من الجن، فلما رأى الوحي لا يستطاع، أتاها فدخل في صدرها، فضج في صدرها فذهب عقلها، فجعل يقول من صدرها: وضع العناق، ومنع الرفاق، وجاء أمر لا يطاق، وأحمد حرم الزنا.
وقال الحافظ أبو بكر الخرائطي: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي - بمصر - حدثنا عمارة بن زيد، حدثنا عيسى بن يزيد، عن صالح بن كيسان، عمن حدثه، عن مرداس بن قيس السدوسي قال: حضرت النبي ﷺ - وقد ذكرت عنده الكهانة وما كان من تغييرها عند مخرجه -
فقلت: يا رسول الله قد كان عندنا في ذلك شيء، أخبرك أن جارية منا يقال لها: الخلصة لم يعلم عليها إلا خيرا، إذا جاءتنا فقالت: يا معشر دوس العجب العجب لما أصابني، هل علمتم إلا خيرا؟
قلنا: وما ذاك. قالت: إني لفي غنمي إذ غشيتني ظلمة، ووجدت كحس الرجل مع المرأة فقد خشيت أن أكون قد حبلت، حتى إذا دنت ولادتها وضعت غلاما أغضف له أذنان كأذني الكلب، فمكث فينا حتى إنه ليلعب مع الغلمان، إذ وثب وثبة وألقى إزاره وصاح بأعلى صوته، وجعل يقول: يا ويلة يا ويلة، يا عولة يا عولة، يا ويل غنم، يا ويل فهم من قابس النار، الخيل والله وراء العقبة، فيهن فتيان حسان نجبة.
قال: فركبنا وأخذنا للأداة، وقلنا: يا ويلك ما ترى؟
فقال: هل من جارية طامث، فقلنا: ومن لنا بها؟
فقال شيخ منا: هي والله عندي عفيفة الأم، فقلنا: فعجلها، فأتى بالجارية وطلع الجبل، وقال للجارية اطرحي ثوبك، واخرجي في وجوههم.
وقال للقوم: اتبعوا أثرها.
وقال لرجل منا يقال له أحمد بن حابس: يا أحمد بن حابس عليك أول فارس، فحمل أحمد فطعن أول فارس فصرعه، وانهزموا فغنمناهم.
قال: فابتنينا عليهم بيتا وسميناه ذا الخلصة، وكان لا يقول لنا شيئا إلا كان كما يقول، حتى إذا كان مبعثك يا رسول الله قال لنا يوما: يا معشر دوس نزلت بنو الحارث بن كعب فركبنا، فقال لنا: اكدسوا الخيل كدسا، احشوا القوم رمسا، انفوهم غدية واشربوا الخمر عشية.
قال: فلقيناهم، فهزمونا وغلبونا، فرجعنا إليه فقلنا: ما حالك وما الذي صنعت بنا؟ فنظرنا إليه وقد احمرت عيناه، وانتصبت أذناه، وانبرم غضبانا، حتى كاد أن ينفطر وقام، فركبنا واغتفرنا هذه له، ومكثنا بعد ذلك حينا، ثم دعانا فقال: هل لكم في غزوة تهب لكم عزا، وتجعل لكم حرزا، ويكون في أيديكم كنزا؟
فقلنا: ما أحوجنا إلى ذلك. فقال: اركبوا فركبنا، فقلنا: ما نقول؟ فقال: بنو الحارث بن مسلمة. ثم قال: قفوا. فوقفنا.
ثم قال: عليكم بفهم، ثم قال: ليس لكم فيهم دم، عليكم بمضرهم أرباب خيل، ونعم. ثم قال: لا، رهط دريد بن الصمة قليل العدد، وفي الذمة ثم قال: لا. ولكن عليكم بكعب بن ربيعة وأسكنوها ضيعة عامر بن صعصعة، فليكن بهم الوقيعة.
قال: فلقيناهم فهزمونا، وفضحونا فرجعنا، وقلنا: ويلك ماذا تصنع بنا؟ قال: ما أدري كذبني الذي كان يصدقني، اسجنوني في بيتي ثلاثا، ثم ائتوني، ففعلنا به ذلك ثم أتيناه بعد ثالثة، ففتحنا عنه فإذا هو كأنه حجرة نار.
فقال: يا معشر دوس، حرست السماء وخرج خير الأنبياء. قلنا: أين؟ قال: بمكة، وأنا ميت فادفنوني في رأس جبل، فإني سوف أضطرم نارا، وإن تركتموني كنت عليكم عارا، فإذا رأيتم اضطرامي وتلهبي فاقذفوني بثلاثة أحجار، ثم قولوا مع كل حجر: بسمك اللهم فإني أهدى وأطفى.
قال: وإنه مات فاشتعل نار، ففعلنا به ما أمر، وقد قذفناه بثلاثة أحجار نقول مع كل حجر: بسمك اللهم فخمد وطفى، وأقمنا حتى قدم علينا الحاج فأخبرونا بمبعثك يا رسول الله. غريب جدا.
وروى الواقدي، عن أبيه، عن ابن أبي ذئب، عن مسلم بن جندب، عن النضر بن سفيان الهذلي، عن أبيه قال: خرجنا في عير لنا إلى الشام، فلما كنا بين الزرقا ومعان، قد عرسنا من الليل، فإذا بفارس يقول وهو بين السماء والأرض: أيها النيام هبوا، فليس هذا بحين رقاد، قد خرج أحمد فطردت الجن كل مطرد، ففزعنا ونحن رفقة حزورة، كلهم قد سمع بهذا.
فرجعنا إلى أهلنا، فإذا هم يذكرون اختلافا بمكة بين قريش في نبي قد خرج فيهم من بني عبد المطلب اسمه أحمد، ذكره أبو نعيم.
وقال الخرائطي: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي - بمصر - حدثنا عمارة بن زيد، حدثني عبد الله بن العلاء، حدثني يحيى بن عروة، عن أبيه أن نفرا من قريش منهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الله بن جحش بن رئاب، وعثمان بن الحويرث كانوا عند صنم لهم يجتمعون إليه، قد اتخذوا ذلك اليوم من كل سنة عيدا.
كانوا يعظمونه وينحرون له الجزور، ثم يأكلون ويشربون الخمر، ويعكفون عليه فدخلوا عليه في الليل، فرأوه مكبوبا على وجهه، فأنكروا ذلك فأخذوه فردوه إلى حاله، فلم يلبث أن انقلب انقلابا عنيفا، فأخذوه فردوه إلى حاله، فانقلب الثالثة، فلما رأوا ذلك اغتموا له وأعظموا ذلك.
فقال عثمان بن الحويرث: ما له قد أكثر التنكس إن هذا الأمر قد حدث، وذلك في الليلة التي ولد فيها رسول الله ﷺ فجعل عثمان يقول:
أبا صنم العيد الذي صُفَّ حوله * صناديد وفد من بعيد ومن قُرب
تنكّست مغلوبا فما ذاك قُلْ لنا * أذاك سفيه أم تنكست للعتب
فإن كان من ذنب أتينا فإننا * نبوءُ بإقرار ونلوي عن الذنب
وإن كنت مغلوبا ونُكِّست صاغرا * فما أنت في الأوثان بالسيد الرب
قال: فأخذوا الصنم فردوه إلى حاله، فلما استوى هتف بهم هاتف من الصنم بصوت جهير وهو يقول:
تردّى لمولود أنارتْ بنوره * جميع فجاج الأرض في الشرق والغرب
وخرت له الأوثان طرا وأرعدتْ * قلوب ملوك الأرض طرا من الرعب
ونار جميع الفرس باخت وأظلمت * وقد بات شاهُ الفرس في أعظم الكرب
وصدّتْ عن الكهان بالغيب جنّها * فلا مخبرُ عنهم بحق ولا كذب
فيا لقصيِّ ارجعوا عن ضلالكم * وهبوا إلى الإسلام والمنزل الرحب
قال: فلما سمعوا ذلك خلصوا نجيا، فقال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فقالوا: أجل. فقال لهم ورقة بن نوفل: تعلمون والله ما قومكم على دين، ولقد اخطئوا الحجة وتركوا دين إبراهيم، ما حجر تطيفون به لا يسمع، ولا يبصر، ولا ينفع، ولا يضر، يا قوم التمسوا لأنفسكم الدين، فإنكم و الله ما أنتم على شيء.
قال: فخرجوا عند ذلك يضربون في الأرض، ويسألون عن الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام ؛ فأما ورقة بن نوفل فتنصر وقرأ الكتب حتى علم علما.
وأما عثمان بن الحويرث فسار إلى قيصر فتنصر وحسنت منزلته عنده.
وأما زيد بن عمرو بن نفيل فأراد الخروج فحبس، ثم إنه خرج بعد ذلك فضرب في الأرض حتى بلغ الرقة من أرض الجزيرة، فلقي بها راهبا عالما فأخبره بالذي يطلب، فقال له الراهب: إنك لتطلب دينا ما تجد من يحملك عليه، ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلدك، يبعث بدين الحنيفية، فلما قال له ذلك، رجع يريد مكة فغارت عليه لخم فقتلوه.
وأما عبد الله بن جحش فأقام بمكة حتى بعث النبي ﷺ، ثم خرج مع من خرج إلى أرض الحبشة، فلما صار بها تنصر وفارق الإسلام فكان بها حتى هلك هنالك نصرانيا. تقدم في ترجمة زيد بن عمر بن نفيل له شاهد.
وقد قال الخرائطي: حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح أبو بكر الوراق، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن عبد العزيز، حدثني محمد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن أنس السلمي، عن العباس بن مرداس أنه كان يعر في لقاح له نصف النهار، إذ طلعت عليه نعامة بيضاء عليها راكب عليه ثياب بياض مثل اللبن.
فقال: يا عباس بن مرداس ألم تر أن السماء قد كفت أحراسها، وأن الحرب تجرعت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الذي نزل بالبر والتقوى، يوم الإثنين ليلة الثلاثاء، صاحب الناقة القصوى.
قال: فرجعت مرعوبا قد راعني ما رأيت وسمعت، حتى جئت وثنا لنا يدعى الضماد وكنا نعبده ونكلم من جوفه، فكنست ما حوله، ثم تمسحت به وقبلته فإذا صائح من جوفه يقول:
قلْ للقبائل من سليم كلها * هلك الضماد وفاز أهلُ المسجد
هلك الضماد وكان يُعبدُ مرة * قبل الصلاة مع النبي محمد
إن الذي ورِث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريشٍ مهتد
قال: فخرجت مرعوبا حتى أتيت قومي فقصصت عليهم القصة، وأخبرتهم الخبر، وخرجت في ثلاثمائة من قومي بني حارثة إلى رسول الله ﷺ وهو بالمدينة، فدخلنا المسجد فلما رآني رسول الله ﷺ قال لي:
« يا عباس، كيف كان إسلامك؟ » فقصصت عليه القصة.
قال فسر بذلك، وأسلمت أنا وقومي.
ورواه الحافظ أبو نعيم في (الدلائل) من حديث أبي بكر بن أبي عاصم عن عمرو بن عثمان به.
ثم رواه أيضا من طريق الأصمعي: حدثني الوصافي عن منصور بن المعتمر، عن قبيصة بن عمرو بن إسحاق الخزاعي، عن العباس بن مرداس السلمي قال: أول إسلامي أن مرداسا أبي لما حضرته الوفاة أوصاني بصنم له يقال له ضماذ، فجعلته في بيت، وجعلت آتيه كل يوم مرة، فلما ظهر النبي ﷺ سمعت صوتا مرسلا في جوف الليل راعني، فوثبت إلى ضماد مستغيثا وإذا بالصوت من جوفه وهو يقول:
قل للقبيلة من سليم كلها * هلك الأنيس وعاش أهل المسجد
أودى ضماد وكان يعبد مرة * قبل الكتاب إلى النبي محمد
إن الذي ورث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريش مهتد
قال: فكتمته الناس، فلما رجع الناس من الأحزاب، بينا أنا في إبلي بطرف العقيق من ذات عرق راقدا، سمعت صوتا وإذا برجل على جناح نعامة وهو يقول: النور الذي وقع ليلة الثلاثاء مع صاحب الناقة العضباء في ديار إخوان بني العنقاء، فأجابه هاتف من شماله وهو يقول:
بشر الجن وإبلاسها * إن وضعت المطي أحلاسها
وكلأَتِ السماء أحراسها
قال: فوثبت مذعورا، وعلمت أن محمدا مرسل، فركبت فرسي واحتثثت السير، حتى انتهيت إليه فبايعته ثم انصرفت إلى ضماد فأحرقته بالنار، ثم رجعت إلى رسول الله ﷺ فأنشدته شعرا أقول فيه:
لعمرك إني يوم أجعل جاهلا * ضمادا لرب العالمين مشاركا
وتركي رسول الله والأوس حوله * أولئك أنصار له ما أولئكا
كتاركِ سهل الأرض والحزن يبتغي * ليسلك في وعثِ الأمور المسالكا
فآمنت بالله الذي أنا عبدهُ * وخالفت من أمسى يريد المهالكا
ووجهت وجهي نحو مكة قاصدا * أبايع نبي الأكرمين المباركا
نبي أتانا بعد عيسى بناطقٍ * من الحق فيه الفصل فيه كذلكا
أمين على القرآن أولُ شافع * وأول مبعوث يجيب الملائكا
تلافى عرى الإسلام بعد انتقاضها * فأحكمها حتى أقام المناسكا
عنيتُك يا خير البرية كلها * توسطتَ في الفرعين والمجد مالكا
وأنتَ المصفى من قريش إذا سمت * على ضمرها تبقى القرون المباركا
إذا انتسب الحيان كعب ومالك * وجدناك محضا والنساء العواركا
قال الخرائطي: وحدثنا عبد الله بن محمد البلوي بمصر، حدثنا عمارة بن زيد، حدثنا إسحاق بن بشر وسلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، حدثني شيخ من الأنصار يقال له: عبد الله بن محمود من آل محمد بن مسلمة قال:
بلغني أن رجالا من خثعم كانوا يقولون: إن مما دعانا إلى الإسلام أنا كنا قوما نعبد الأوثان، فبينا نحن ذات يوم عند وثن لنا إذ أقبل نفر يتقاضون إليه، يرجون الفرج من عنده لشيء شجر بينهم، إذ هتف بهم هاتف يقول:
يا أيها الناس ذوو الأجسام * من بين أشياخٍ إلى غلام
ما أنتم وطائش الأحلام * ومسند الحُكم إلى الأصنام
أكلكم في حيرةٍ نيام * أم لا تَرون ما الذي أمامي
من ساطع يجلو دُجى الظلام * قد لاح للناظر من تِهَام
ذاك نبي سيد الأنام * قد جاء بعد الكفر بالإسلام
أكرمه الرحمن من إمام * ومن رسولٍ صادق الكلام
أعدل ذي حكم من الأحكام * يأمرُ بالصلاة والصيام
والبر والصلات للأرحام * ويزجرُ الناس عن الآثام
والرجسِ والأوثانِ والحرام * من هاشمٍ في ذروة السنام
مستعلنا في البلد الحرام
قال: فلما سمعنا ذلك تفرقنا عنه، وآتينا النبي ﷺ فأسلمنا.
وقال الخرائطي: حدثنا عبد الله البلوي، حدثنا عمارة، حدثني عبيد الله بن العلاء، حدثنا محمد بن عكبر، عن سعيد بن جبير أن رجلا من بني تميم يقال له: رافع بن عمير - وكان أهدى الناس للطريق، وأسراهم بليل، وأهجمهم على هول، وكانت العرب تسميه لذلك دعموص العرب، لهدايته وجراوته على السير - فذكر عن بدء إسلامه قال:
إني لأسير برمل عالج ذات ليلة إذ غلبني النوم، فنزلت عن راحلتي ونختها وتوسدت ذراعها ونمت، وقد تعوذت قبل نومي فقلت: أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن من أن أوذي أو أهاج، فرأيت في منامي رجلا شابا يرصد ناقتي وبيده حربة يريد أن يضعها في نحرها، فانتبهت لذلك فزعا، فنظرت يمينا وشمالا فلم أرَ شيئا فقلت: هذا حلم.
ثم عدت فغفوت فرأيت في منامي مثل رؤياي الأولى، فانتبهت فدرت حول ناقتي فلم أرَ شيئا، وإذا ناقتي ترعد.
ثم غفوت فرأيت مثل ذلك، فانتبهت فرأيت ناقتي تضطرب والتفت فإذا أنا برجل شاب كالذي رأيت في المنام بيده حربة، ورجل شيخ ممسك بيده يرده عنها وهو يقول:
يا مالكَ بن مهلهل بن دِثار * مهلا فدىً لك مئزري وإزاري
عن ناقةِ الأنسي لا تعرض لها * واختَرْ بها ما شئت من أثواري
ولقد بدا لي منكَ ما لم أحتسب * ألا رعيتَ قرابتي وذِماري
تسمو إليه بحربةٍ مسمومةٍ * تُبا لفعلك يا أبا الغفار
لولا الحياءُ وأن أهلك جيرة * لعلمت ما كشّفتُ من أخباري
قال: فأجابه الشاب وهو يقول:
أأردتَ أن تعلو وتخفض ذكرنا * في غير مزرية أبا العيزار
ما كان فيهم سيد فيما مضى * إن الخيارَ هُمو بنو الأخيار
فاقصِدْ لقصدك يا معكبرُ إنما * كان المجيرُ مُهلهِلَ بن دثار
قال: فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش، فقال الشيخ للفتى: قم يا ابن أخت فخذ أيها شئت فداءً لناقة جاري الأنسي، فقام الفتى فأخذ منها ثورا وانصرف. ثم التفت إلى الشيخ فقال: يا هذا إذا نزلت واديا من الأودية فخفت هوله فقل: أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي، ولا تعذ بأحد من الجن فقد بطل أمرها.
قال: فقلت له: ومن محمد هذا؟ قال: نبي عربي، لا شرقي ولا غربي، بعث يوم الإثنين.
قلت: وأين مسكنه؟ قال: يثرب ذات النخل.
قال: فركبت راحلتي حين برق لي الصبح، وجددت السير حتى تقحمت المدينة، فرآني رسول الله ﷺ فحدثني بحديث قبل أن أذكر له منه شيئا، ودعاني إلى الإسلام فأسلمت.
قال سعيد بن جبير: وكنا نرى أنه هو الذي أنزل الله فيه { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقا } 1.
وروى الخرائطي من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، عن داود بن الحسين، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن علي قال: إذا كنت بوادٍ تخاف السبع فقل: أعوذ بدانيال والجب من شر الأسد.
وروى البلوي عن عمارة بن زيد، عن إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، حدثني يحيى بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه، عن ابن عباس قصة قتال علي الجن بالبئر ذات العلم التي بالجحفة حين بعثه رسول الله ﷺ يستقي لهم الماء، فأرادوا منعه وقطعوا الدلو فنزل إليهم، وهي قصة مطولة منكرة جدا، والله أعلم.
وقال الخرائطي: حدثني أبو الحارث: محمد بن مصعب الدمشقي وغيره، حدثنا سليمان بن بنت شرحبيل الدمشقي، حدثنا عبد القدوس بن الحجاج، حدثنا خالد بن سعيد، عن الشعبي، عن رجل قال:
كنت في مجلس عمر بن الخطاب وعنده جماعة من أصحاب النبي ﷺ يتذاكرون فضائل القرآن، فقال بعضهم: خواتيم سورة النحل، وقال بعضهم: سورة يس، وقال علي: فأين أنتم عن فضيلة آية الكرسي أما إنها سبعون كلمة في كل كلمة بركة. قال وفي القوم عمرو بن معدي كرب لا يحير جوابا، فقال: أين أنتم عن بسم الله الرحمن الرحيم؟
فقال عمر: حدثنا يا أبا ثور.
قال: بينا أنا في الجاهلية إذ جهدني الجوع فأقحمت فرسي في البرية، فما أصبت إلا بيض النعام، فبينا أنا أسير إذا أنا بشيخ عربي في خيمة، وإلى جانبه جارية كأنها شمس طالعة ومعه غنيمات له، فقلت له: استأسر ثكلتك أمك، فرفع رأسه إلي وقال: يا فتى إن أردت قرى فانزل، وإن أردت معونة أعنَّاك؟
فقلت له: أستأسر.
فقال:
عرضنا عليك النّزْل منا تكرما * فلم ترعوي جهلا كفعل الأشائم
وجئتَ ببهتان وزور ودون ما * تمنّيتهُ بالبيض حزُّ الغلاصم
قال: ووثب إلي وثبة وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فكأني مثلت تحته. ثم قال: أقتلك أم أخلي عنك؟ قلت: بل خلِّ عني. قال: فخلى عني. ثم إن نفسي جاذبتني بالمعاودة فقلت: استأسر ثكلتك أمك، فقال:
ببسم الله والرحمن فُزْنا * هنالك والرحيمُ به قَهَرنا
وما تغني جلادة ذي حفاظٍ * إذا يوما لمعركة برزنا
ثم وثب لي وثبة كأني مثلت تحته. فقال: أقتلك أم أخلي عنك؟ قال: قلت بل خل عني، فخلى عني فانطلقت غير بعيد. ثم قلت في نفسي: يا عمرو أيقهرك هذا الشيخ، والله للموت خير لك من الحياة، فرجعت إليه فقلت له: استأسر ثكلتك أمك، فوثب إلي وثبة وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم فكأني مثلت تحته.
فقال: أقتلك أم أخلي عنك؟ قلت: بل خل عني. فقال: هيهات، يا جارية إئتني بالمدية، فأتته بالمدية فجزَّ ناصيتي. وكانت العرب إذا ظفرت برجل فجزت ناصيته استعبدته، فكنت معه أخدمه مدة.
ثم إنه قال: يا عمرو أريد أن تركب معي البرية، وليس بي منك وجل، فإني ببسم الله الرحمن الرحيم لواثق.
قال: فسرنا حتى أتينا واديا أشبا مهولا مغولا، فنادى بأعلى صوته: بسم الله الرحمن الرحيم، فلم يبق طير في وكره إلا طار. ثم أعاد القول فلم يبق سبع في مربضه إلا هرب. ثم أعاد الصوت فإذا نحن بحبشي قد خرج علينا من الوادي كالنخلة السحوق.
فقال لي: ياعمرو إذ رأيتنا قد اتحدنا فقل غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم.
قال: فلما رأيتهما قد اتحدا قلت: غلبه صاحبي باللات والعزى فلم يصنع الشيخ شيئا، فرجع إلي وقال: قد علمت أنك قد خالفت قولي
قلت: أجل ولست بعائد، فقال: إذا رأيتنا قد اتحدنا فقل غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم، فقلت: أجل. فلما رأيتهما قد اتحدا قلت: غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم، فاتكأ عليه الشيخ، فبعجه بسيفه فاشتق بطنه فاستخرج منه شيئا كهيئة القنديل الأسود. ثم قال: يا عمرو هذا غشه وغله. ثم قال: أتدري من تلك الجارية؟ قلت: لا.
قال: تلك الفارعة بنت السليل الجرهمي من خيار الجن، وهؤلاء أهلها بنو عمها يغزونني منهم كل عام رجل ينصرني الله عليه ببسم الله الرحمن الرحيم.
ثم قال: قد رأيت ما كان مني إلى الحبشي، وقد غلب علي الجوع فائتني بشيء آكله، فأقحمت بفرسي البرية، فما أصبت الأبيض النعام، فأتيته به فوجدته نائما، وإذا تحت رأسه شيء كهيئة الحشبة، فاستللته فإذا هو سيف عرضه شبر في سبعة أشبار، فضربت ساقيه ضربة أبنت الساقين مع القدمين، فاستوى على قفا ظهره وهو يقول: قاتلك الله ما أغدرك يا غدار.
قال عمر: ثم ماذا صنعت؟ قلت: فلم أزل أضربه بسيفي حتى قطعته إربا إربا. قال: فوجم لذلك ثم أنشأ يقول:
بالغدر نلت أخا الإسلام عن كثب * ما إن سمعت كذا في سالف العرب
والعجم تأنف مما جئته كرما * تبا لما جئته في السيد الأرب
إني لأعجب أني نلت قتلته * أم كيف جازاك عند الذنب لم تنب
قرم عفا عنك مرات وقد علقت * بالجسم منك يداه موضع العطب
لو كنت آخذٍ في الإسلام ما فعلوا * في الجاهلية أهل الشرك والصلب
إذا لنالتك من عدلي مشطبة * تدعو لذائقها بالويل والحرب
قال: ثم ما كان من حال الجارية قلت: ثم إني أتيت الجارية فلما رأتني قالت: ما فعل الشيخ؟ قلت: قتله الحبشي. فقالت: كذبت بل قتلته أنت بغدرك، ثم أنشأت تقول:
يا عين جودي للفارس المغوار * ثم جودي بواكفات غزار
لا تملي البكاء إذ خانك الدهر * بواف حقيقة صبار
وتقي وذي وقار وحلم * وعديل الفخار يوم الفخار
لهف نفسي على بقائك عمرو * أسلمتك الأعمار للأقدار
ولعمري لو لم ترمه بغدر * رمت ليثا كصارم بتار
قال: فأحفظني قولها فاستللت سيفي ودخلت الخيمة لأقتلها، فلم أر في الخيمة أحدا، فاستقت الماشية وجئت إلى أهلي وهذا أثر عجيب.
والظاهر أن الشيخ كان من الجان، وكان ممن أسلم وتعلم القرآن، وفيما تعلمه بسم الله الرحمن الرحيم، وكان يتعوذ بها.
وقال الخرائطي: حدثنا عبد الله بن محمد البلوى، حدثنا عمارة بن زيد قال: حدثني عبد الله بن العلاء، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: كان زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل يذكران أنهما أتيا النجاشي بعد رجوع أبرهة من مكة، قالا: فلما دخلنا عليه قال لنا: أصدقاني أيها القرشيان هل ولد فيكم مولود أراد أبوه ذبحه فضرب عليه بالقداح فسلم، ونحرت عنه إبل كثيرة؟
قلنا: نعم. قال: فهل لكما علم به ما فعل؟ قلنا: تزوج امرأة يقال لها آمنة بنت وهب، تركها حاملا وخرج. قال: فهل تعلمان ولد أم لا؟ قال ورقة بن نوفل: أخبرك أيها الملك أني ليلة قد بت عند وثن لنا كنا نطيف به ونعبده إذ سمعت من جوفه هاتفا يقول:
ولد النبي فذلت الأملاك * ونأى الضلال وأدبر الإشراك
ثم انتكس الصنم على وجهه، فقال زيد بن عمرو بن نفيل: عندي كخبره أيها الملك. قال: هات. قال: أنا في مثل هذه الليلة التي ذكر فيها حديثه، خرجت من عند أهلي وهم يذكرون حمل آمنة، حتى أتيت جبل أبي قبيس أريد الخلو فيه لأمر رابني، إذ رأيت رجلا نزل من السماء له جناحان أخضران، فوقف على أبي قبيس، ثم أشرف على مكة فقال: ذل الشيطان، وبطلت الأوثان، ولد الأمين.
ثم نشر ثوبا معه، وأهوى به نحو المشرق والمغرب، فرأيته قد جلل ما تحت السماء، وسطع نور كاد أن يختطف بصري، وهالني ما رأيت، وخفق الهاتف بجناحيه حتى سقط على الكعبة، فسطع له نور أشرقت له تهامة.
وقال: ذكت الأرض، وأدت ربيعها، وأومأ إلى الأصنام التي كانت على الكعبة فسقطت كلها.
قال النجاشي: ويحكما أخبركما عما أصابني ؛ إني لنائم في الليلة التي ذكرتما في قبة وقت خلوتي، إذ خرج علي من الأرض عنق ورأس، وهو يقول: حل الويل بأصحاب الفيل، رمتهم طير أبابيل، بحجارة من سجيل، هلك الأشرم المعتدي المجرم، وولد النبي الأمي المكي الحرمي، من أجابه سعد، ومن أباه عتد.
ثم دخل الأرض فغاب، فذهبت أصيح فلم أطق الكلام، ورمت القيام فلم أطق، القيام فصرعت القبة بيدي فسمع بذلك أهلي فجاؤني. فقلت: أحجبوا عني الحبشة فحجبوهم عني، ثم أطلق عن لساني ورجلي.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في قصة المولد رؤيا كسرى في سقوط أربع عشرة شرافة من إيوانه، وخمود نيرانه، ورؤيا موئذانه، وتفسير سطيح لذلك على يدي عبد المسيح.
وروى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في (تاريخه) في ترجمة الحارث بن هانىء بن المدلج بن المقداد بن زمل بن عمرو العذري، عن أبيه، عن جده، عن أبيه، عن زمل بن عمرو العذري قال: كان لبني عذرة صنم يقال له حمام، وكانوا يعظمونه، وكان في بني هند بن حرام بن ضبة بن عبد بن كثير بن عذرة، وكان سادنه رجلا يقال له طارق، وكانوا يعترون عنده.
فلما ظهر رسول الله ﷺ سمعنا صوتا يقول: يا بني هند بن حرام ظهر الحق، وأودى صمام، ودفع الشرك الإسلام. قال: ففزعنا لذلك وهالنا فمكثنا أياما، ثم سمعنا صوتا وهو يقول: يا طارق يا طارق، بعث النبي الصادق، بوحي ناطق، صدع صادع بأرض تهامة، لناصريه السلامة، ولخاذليه الندامة، هذا الوداع مني إلى يوم القيامة.
قال زمل: فوقع الصنم لوجهه. قال: فابتعت راحلة ورحلت حتى أتيت النبي ﷺ مع نفر من قومي، وأنشدته شعرا قلته:
إليك رسول الله أعملت نصها * وكلفتها حزنا وغورا من الرمل
لأنصر خير الناس نصرا مؤزرا * وأعقد حبلا من حبالك في حبلي
وأشهد أن الله لا شيء غيره * أدين به ما أثقلت قدمي نعلي
قال: فأسلمت وبايعته، وأخبرناه بما سمعنا فقال: ذاك من كلام الجن، ثم قال: يا معشر العرب إني رسول الله إليكم وإلى الأنام كافة، أدعوهم إلى عبادة الله وحده، وإني رسوله وعبده، وأن تحجوا البيت، وتصوموا شهرا من اثني عشر شهرا وهو شهر رمضان، فمن أجابني فله الجنة نزلا، ومن عصاني كانت النار له منقلبا.
قال: فأسلمنا وعقد لنا لواء، وكتب لنا كتابا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لزمل بن عمرو ومن أسلم معه خاصة، إني بعثته إلى قومه عامدا فمن أسلم ففي حزب الله ورسوله، ومن أبى فله أمان شهرين، شهد علي بن أبي طالب، ومحمد بن مسلمة الأنصاري. ثم قال ابن عساكر غريب جدا.
وقال سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في (مغازيه): حدثني محمد بن سعيد - يعني عمه - قال: قال محمد بن المنكدر: إنه ذكر لي عن ابن عباس قال: هتف هاتف من الجن على أبي قبيس فقال:
قبح الله رأيكم آل فهر * ما أدق العقول والأفهام
حين تعصى لمن يعيب عليها * دين آبائها الحماة الكرام
حالف الجن جن بصرى عليكم * ورجال النخيل والآطام
توشك الخيل أن تردها تهادى * تقتل القوم في حرام بهام
هل كريم منكم له نفس حر * ماجذ الوالدين والأعمام
ضارب ضربة تكون نكالا * ورواحا من كربة واغتمام
قال ابن عباس: فأصبح هذا الشعر حديثا لأهل مكة يتناشدونه بينهم، فقال رسول الله ﷺ:
« هذا شيطان يكلم الناس في الأوثان يقال له: مسعر والله مخزيه ».
فمكثوا ثلاثة أيام فإذا هاتف يهتف على الجبل يقول:
نحن قتلنا في ثلاث مسعرا * إذ سفه الجن وسن المنكرا
قنعته سيفا حساما مشهرا * بشتمه نبينا المطهرا
فقال رسول الله ﷺ: « هذا عفريت من الجن اسمه سمج آمن بي سميته عبد الله أخبرني أنه في طلبه ثلاثة أيام ».
فقال علي: جزاه الله خيرا يا رسول الله.
وقد روى الحافظ أبو نعيم في (الدلائل) قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن بن جعفر، حدثنا أبو الفضل محمد بن عبد الرحمن بن موسى بن أبي حرب الصفار، حدثنا عباس بن الفرج الرياشي، حدثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت، عن أبيه، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، عن سعد بن عبادة قال:
بعثني رسول الله ﷺ إلى حضرموت في حاجة قبل الهجرة، حتى إذا كنت في بعض الطريق ساعة من الليل، فسمعت هاتفا يقول:
أبا عمرو ناوبني السهود * وراح النوم وامتنع الهجود
لذكر عصابة سلفوا وبادوا * وكل الخلق قصرهم يبيد
تولوا واردين إلى المنايا * حياضا ليس منهلها الورود
مضوا لسبيلهم وبقيت خلفا * وحيدا ليس يسعفني وحيد
سدى لا أستطيع علاج أمر * إذا ما عالج الطفل الوليد
فلأيا ما بقيت إلى أناس * وقد باتت بمهلكها ثمود
وعاد والقرون بذي شعوب * سواء كلهم إرم حصيد
قال: ثم صاح به آخر: يا خرعب ذهب بك العجب إن العجب كل العجب بين زهرة ويثرب.
قال: وما ذاك يا شاحب؟
قال: نبي السلام، بعث بخير الكلام إلى جميع الأنام، فاخرج من البلد الحرام، إلى نخيل وآطام.
قال: ما هذا النبي المرسل، والكتاب المنزل، والأمي المفضل؟
قال: رجل من ولد لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.
قال: هيهات فات عن هذا سني، وذهب عنه زمني، لقد رأيتني والنضر بن كنانة نرمي غرضا واحدا، ونشرب حلبا باردا، ولقد خرجت به من دوحة في غداة شبمة، وطلع مع الشمس، وغرب معها، يروي ما يسمع، ويثبت ما يبصر، ولئن كان هذا من ولده لقد سل السيف، وذهب الخوف، ودحض الزنا، وهلك الربا.
قال: فأخبرني ما يكون.
قال: ذهبت الضراء والبؤس، والمجاعة والشدة والشجاعة، إلا بقية في خزاعة، وذهبت الضراء والبؤس، والخلق المنفوس إلا بقية من الخزرج والأوس، وذهبت الخيلاء والفخر، والنميمة والغدر، إلا بقية في بني بكر - يعني ابن هوازن - وذهب الفعل المندم، والعمل المؤتم، إلا بقية في خثعم.
قال: أخبرني ما يكون. قال: إذا غلبت البرة، وكظمت الحرة، فاخرج من بلاد الهجرة، وإذا كف السلام، وقطعت الأرحام، فاخرج من البلد الحرام.
قال: أخبرني ما يكون. قال: لولا أذن تسمع، وعين تلمع، لأخبرتك بما تفزع. ثم قال:
لا منام هدأته بنعيم * يا ابن غوط ولا صباح أتانا
قال: ثم صرصر صرصرة كأنها صرصرة حبلى، فذهب الفجر فذهبت لأنظر فإذا عظاية وثعبان ميتان.
قال: فما علمت أن رسول الله ﷺ هاجر إلى المدينة إلا بهذا الحديث.
ثم رواه عن محمد بن جعفر، عن إبراهيم بن علي، عن النضر بن سلمة، عن حسان بن عبادة بن موسى، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر، عن ابن عباس، عن سعد بن عبادة قال: لما بايعنا رسول الله ﷺ ليلة العقبة، خرجت إلى حضر موت لبعض الحاج، قال: فقضيت حاجتي، ثم أقبلت حتى إذا كنت ببعض الطريق نمت، ففزعت من الليل بصائح يقول:
أبا عمرو ناوبني السهود * وراح النوم وانقطع الهجود
وذكر مثله بطوله.
وقال أبو نعيم: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن علي، حدثنا النضر بن سلمة، حدثنا أبو غزية محمد بن موسى، عن العطاف بن خالد الوصابي، عن خالد بن سعيد، عن أبيه قال: سمعت تميما الداري يقول: كنت بالشام حين بعث النبي ﷺ فخرجت لبعض حاجتي فأدركني الليل، فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي الليلة.
قال: فلما أخذت مضجعي إذا أنا بمناد ينادي - لا أراه - عذبا لله فإن الجن لا تجير أحدا على الله، فقلت: أيم الله تقول؟ فقال: قد خرج رسول الأميين رسول الله وصلينا خلفه بالحجون.
فأسلمنا واتبعناه وذهب كيد الجن ورميت بالشهب، فانطلق إلى محمد رسول رب العالمين فأسلم.
قال تميم: فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب، فسألت راهبا وأخبرته الخبر، فقال الراهب: قد صدقوك، يخرج من الحرم ومهاجره الحرم، وهو خير الأنبياء، فلا تسبق إليه.
قال تميم: فتكلفت الشخوص حتى جئت رسول الله ﷺ فأسلمت.
وقال حاتم بن إسماعيل، عن عبد الله بن يزيد الهذلي، عن عبد الله بن ساعدة الهذلي، عن أبيه قال: كنا عند صنمنا سواع، وقد جلبنا إليه غنما لنا مائتي شاة قد أصابها جرب، فأدنيناها منه لنطلب بركته، فسمعت مناديا من جوف الصنم ينادي: قد ذهب كيد الجن ورمينا بالشهب لنبي اسمه أحمد.
قال: فقلت: غويت والله، فصدقت وجه غنمي منجدا إلى أهلي، فرأيت رجلا فخبرني بظهور النبي ﷺ. ذكره أبو نعيم هكذا معلقا، ثم قال: حدثنا عمر بن محمد بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن السندي، حدثنا النضر بن سلمة، حدثنا محمد بن مسلمة المخزومي، حدثنا يحيى بن سليمان، عن حكيم بن عطاء الظفري من بني سليم من ولد راشد بن عبد ربه، عن أبيه، عن جده، عن راشد بن عبد ربه قال:
كان الصنم الذي يقال له: سواع بالمعلاة من رهط تدين له هذيل وبنو ظفر بن سليم، فأرسلت بنو ظفر راشد بن عبد ربه بهدية من سليم إلى سواع، قال راشد: فألقيت مع الفجر إلى صنم قبل صنم سواع، فإذا صارخ يصرخ من جوفه: العجب كل العجب من خروج نبي من بني عبد المطلب، يحرم الزنا والربا والذبح للأصنام، وحرست السماء، ورمينا بالشهب، العجب كل العجب.
ثم هتف صنم آخر من جوفه ترك الضمار وكان يعبد خرج النبي أحمد يصلي الصلاة، ويأمر بالزكاة، والصيام، والبر والصلات للأرحام، ثم هتف من جوف صنم آخر هاتف يقول:
إن الذي ورث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريش مهتد
نبي أتى يخبر بما سبق * وبما يكون اليوم حقا أو غد
قال راشد: فألفيت سواعا مع الفجر وثعلبان يلحسان ما حوله، ويأكلان ما يهدى له، ثم يعوجان عليه ببولهما، فعند ذلك يقول راشد بن عبد ربه:
أرب يبول الثعلبان برأسه * لقد ذل من بالت عليه الثعالب
وذلك عند مخرج النبي ﷺ ومهاجره إلى المدينة وتسامع الناس به.
فخرج راشد حتى أتى النبي ﷺ المدينة، ومعه كلب له، واسم راشد يومئذ ظالم، واسم كلبه راشد.
فقال النبي ﷺ: « ما اسمك؟ »
قال: ظالم.
قال: « فما اسم كلبك؟ »
قال: راشد.
قال: « اسمك راشد، واسم كلبك ظالم » وضحك النبي ﷺ.
وبايع النبي ﷺ وأقام بمكة معه، ثم طلب من رسول الله ﷺ قطيعة برهاط - ووصفها له - فأقطعه رسول الله ﷺ بالمعلاة من رهاط شأو الفرس، ورميته ثلاث مرات بحجر، وأعطاه إداوة مملوءة من ماء وتفل فيها، وقال له: فرغها في أعلى القطيعة ولا تمنع الناس فضلها.
ففعل فجعل الماء معينا يجري إلى اليوم، فغرس عليها النخل. ويقال: إن رهاط كلها تشرب منه، فسماها الناس ماء الرسول ﷺ. وأهل رهاط يغتسلون بها وبلغت رمية راشد الركب الذي يقال له ركب الحجر، وغدا راشد على سواع فكسره.
وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا علي بن إبراهيم الخزاعي الأهوازي، حدثنا أبو محمد عبد الله بن داود بن دلهاث بن إسماعيل بن مسرع بن ياسر بن سويد صاحب رسول الله ﷺ، حدثنا أبي، عن أبيه دلهاث، عن أبيه إسماعيل أن أباه عبد الله حدثه، عن أبيه مسرع بن ياسر، أن أباه ياسر حدثه، عن عمرو بن مرة الجهني أنه كان يحدث قال:
خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية، فرأيت في المنام وأنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة حتى أضاء في جبل يثرب، وأشعر جهينة، فسمعت صوتا في النور وهو يقول:
انقشعت الظلماء، وسطع الضياء، وبعث خاتم الأنبياء
ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة، وأبيض المدائن، فسمعت صوتا في النور وهو يقول:
ظهر الإسلام، وكسرت الأصنام، ووصلت الأرحام
فانتبهت فزعا فقلت لقومي: والله ليحدثن في هذا الحي من قريش حدث، وأخبرتهم بما رأيت، فلما انتهينا إلى بلادنا جاءنا رجل فأخبرنا أن رجلا يقال له أحمد قد بعث، فأتيته فأخبرته بما رأيت فقال:
« يا عمرو بن مرة إني المرسل إلى العباد كافة، أدعوهم إلى الإسلام، وآمرهم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الله وحده، ورفض الأصنام، وحج البيت، وصيام شهر من اثني عشر شهرا وهو شهر رمضان، فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار، فآمن يا عمرو بن مرة يؤمنك الله من نار جهنم ».
فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، آمنت بكل ما جئت به من حلال وحرام، وإن أرغم ذلك كثيرا من الأقوام.
ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به، وكان لنا صنم، وكان أبي سادنا له فقمت إليه فكسرته، ثم لحقت النبي ﷺ وأنا أقول:
شهدت بأن الله حق وأنني * لآلهة الأحجار أول تارك
فشمرت عن ساقي إزار مهاجر * إليك أدب الغور بعد الدكادك
لأصحب خير الناس نفسا ووالدا * رسول مليك الناس فوق الحبائك
فقال النبي ﷺ: « مرحبا بك يا عمرو بن مرة ».
فقلت: يا رسول الله بابي وأنت وأمي، ابعث بي إلى قومي لعل الله أن يمن بي عليهم، كما من بك علي، فبعثني إليه وقال: « عليك بالقول السديد، ولا تكن فظا ولا متكبرا ولا حسودا ».
فأتيت قومي فقلت لهم: يا بني رفاعة، ثم يا بني جهينة، إني رسول من رسول الله إليكم أدعوكم إلى الجنة، وأحذركم النار، وآمركم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الله، ورفض الأصنام، وحج البيت، وصيام شهر رمضان شهر من اثني عشر شهرا، فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار.
يا معشر جهينة - إن الله وله الحمد - جعلكم خيار من أنتم منه، وبغض إليكم في جاهليتكم ما حبب إلى غيركم من الرفث، لأنهم كانوا يجمعون بين الأختين، ويخلف الرجل منهم على امرأة أبيه والتراث في الشهر الحرام، فأجيبوا هذا النبي المرسل ﷺ من بني لؤي بن غالب تنالوا شرف الدنيا وكرامة الآخرة، سارعوا سارعوا في ذلك يكون لكم فضيلة عند الله.
فأجابوا إلا رجلا منهم قام فقال: يا عمرو بن مرة أمر الله عليك عيشك، أتأمرنا أن نرفض آلهتنا، ونفرق جماعتنا بمخالفة دين آبائنا إلى ما يدعو هذا القرشي من أهل تهامة؟ لا ولا مرحبا ولا كرامة، ثم أنشأ الخبيث يقول:
إن ابن مرة قد أتى بمقالة * ليست مقالة من يريد صلاحا
إني لأحسب قوله وفعاله * يوما وإن طال الزمان رياحا
أتسفه الأشياخ ممن قد مضى * من رام ذلك لا أصاب فلاحا
فقال عمرو بن مرة: الكاذب مني ومنك أمر الله عيشه، وأبكم لسانه، وأكمه بصره.
قال عمرو بن مرة: والله ما مات حتى سقط فوه، وكان لا يجد طعم الطعام، وعمى وخرس.
وخرج عمرو بن مرة ومن أسلم من قومه حتى أتوا النبي ﷺ فرحب بهم وحباهم، وكتب لهم كتابا هذه نسخته:
« بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله على لسان رسول الله، بكتاب صادق، وحق ناطق، مع عمرو بن مرة الجهني لجهينة بن زيد، إن لكم بطون الأرض وسهولها، وتلاع الأودية وظهورها، ترعون نباته، وتشربون صافيه، على أن تقروا بالخمس، وتصلوا الصلوات الخمس، وفي التبعة والصريمة شاتان إن اجتمعتا، وإن تفرقتا فشاة شاة، ليس على أهل الميرة صدقة، ليس الوردة اللبقة ».
وشهد من حضرنا من المسلمين بكتاب قيس بن شماس رضي الله عنهم، وذلك حين يقول عمرو بن مرة:
ألم تر أن الله أظهر دينه * وبين برهان القران لعامر
كتاب من الرحمن نور لجمعنا * وأحلافنا في كل باد وحاضر
إلى خير من يمشي على الأرض كلها * وأفضلها عند اعتكار الصرائر
أطعنا رسول الله لما تقطعت * بطون الأعادي بالظبي والخواطر
فنحن قبيل قد بني المجد حولنا * إذا اجتلبت في الحرب هام الأكابر
بنو الحرب نفريها بأيد طويلة * وبيض تلالا في أكف المغاور
ترى حوله الأنصار تحمي أميرهم * بسمر العوالي والصفاح البواتر
إذا الحرب دارت عند كل عظيمة * ودارت رحاها بالليوث الهواصر
تبلج منه اللون وازداد وجهه * كمثل ضياء البدر بين الزواهر
وقال أبو عثمان سعيد بن يحيى الأموي في (مغازيه): حدثنا عبد الله، حدثنا أبو عبد الله، حدثنا المجالد بن سعيد والأجلح عن الشعبي، حدثني شيخ من جهينة قال: مرض منا رجل مرضا شديدا فنقل حتى حفرنا له قبره، وهيأنا أمره، فأغمي عليه، ثم فتح عينيه وأفاق، فقال: أحفرتم لي؟
قالوا: نعم. قال: فما فعل الفصل - وهو ابن عم له -
قلنا: صالح مر آنفا يسأل عنك. قال: أما إنه يوشك أن يجعل في حفرتي إنه أتاني آت حين أغمي علي فقال: ابك هبل أما ترى حفرتك تنتثل، وأمك قد كادت تثكل، أرأيتك أن حولناها عنك بالمحول، ثم ملأناها بالجندل، وقدفنا فيها الفصل الذي مضى فأجزأك، وظن أن لن يفعل، أتشكر لربك وتصل وتدع دين من أشرك وضل؟
قال: قلت: نعم. قال: قم، قد برئت. قال: فبرىء الرجل، ومات الفصل فجعل في حفرته، قال الجهيني: فرأيت الجهيني بعد ذلك يصلي، ويسب الأوثان ويقع فيها.
وقال الأموي: حدثنا عبد الله قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مجلس يتحدثون عن الجن فقال خريم بن فاتك الأسدي لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين ألا أحدثك كيف كان إسلامي؟
قال: بلى. قال: إني يوما في طلب ذود لي أنا منها على أثر تنصب وتصعد، حتى إذا كنت بابرق العراق أنخت راحلتي، وقلت: أعوذ بعظيم هذه البلدة، أعوذ برئيس هذا الوادي من سفهاء قومه، فإذا بهاتف يهتف بي:
ويحك، عذ بالله ذي الجلال * والمجد والعلياء والإفضال
ثم اتل آيات من الأنفال * ووحد الله ولا تبالي
قال: فذعرت ذعرا شديدا، ثم رجعت إلى نفسي فقلت:
يا أيها الهاتف ما تقول * أرشد عندك أم تضليل
بين هداك الله ما الحويل
قال: فقال:
هذا رسول الله ذو الخيرات * بيثرب يدعو إلى النجاة
يأمر بالبر وبالصلاة * ويزع الناس عن الهنات
قال: قلت له: والله لا أبرح حتى أتيه وأومن به، فنصبت رجلي في غرز راحلتي وقلت:
أرشدني أرشدني هديتا * لا جعت ما عشت ولا عريتا
ولا برحت سيدا مقيتا * لا تؤثر الخير الذي أتيتا
على جميع الجن ما بقيتا
فقال:
صاحبك الله وأدى رحلكا * وعظم الأجر وعافا نفسكا
آمن به أفلج ربي حقكا * وانصره نصرا عزيزا نصركا
قال: قلت: من أنت عافاك الله حتى أخبره إذا قدمت عليه؟
فقال: أنا ملك بن ملك، وأنا نقيبه على جن نصيبين، وكفيت إبلك حتى أضمها إلى أهلك إن شاء الله.
قال: فخرجت حتى أتيت المدينة يوم الجمعة والناس أرسال إلى المسجد، والنبي ﷺ على المنبر كأنه البدر يخطب الناس، فقلت: أنيخ على باب المسجد حتى يصلي، وأدخل عليه فأسلم وأخبره عن إسلامي، فلما أنخت خرج إلى أبو ذر فقال: مرحبا وأهلا وسهلا قد بلغنا إسلامك، فادخل فصل ففعلت.
ثم جئت إلى رسول الله ﷺ فأخبرني بإسلامي.
فقلت: الحمد لله.
قال: « أما إن صاحبك قد وفى لك وهو أهل ذلك وأدى إبلك إلى أهلك ».
وقد رواه الطبراني في ترجمة خريم بن فاتك من (معجمه الكبير) قائلا: حدثنا الحسين بن إسحاق اليسيري، حدثنا محمد بن إبراهيم الشامي، حدثنا عبد الله بن موسى الأسكندري، حدثنا محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال خريم بن فاتك لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين ألا أخبرك كيف كان بدء إسلامي؟
قال: بلى، فذكره غير أنه قال: فخرج إلى أبو بكر الصديق فقال: ادخل فقد بلغنا إسلامك، فقلت: لا أحسن الطهور، فعلمني فدخلت المسجد فرأيت رسول الله ﷺ كأنه البدر وهو يقول:
« ما من مسلم توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى صلاة يحفظها ويعقلها إلا دخل الجنة ».
فقال لي عمر: لتأتيني على هذا ببينة، أو لأنكلن بك، فشهد لي شيخ قريش عثمان بن عفان، فأجاز شهادته.
ثم رواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن محمد بن تيم، عن محمد بن خليفة، عن محمد بن الحسن، عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب لخريم بن فاتك: حدثني بحديث يعجبني، فذكر مثل السياق الأول سواء.
وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي الدمشقي، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن بن بنت شرحبيل، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني، عن عبد الله بن الديلمي قال: أتى رجل ابن عباس فقال: بلغنا أنك تذكر سطيحا تزعم أن الله خلقه، لم يخلق من بني آدم شيئا يشبهه؟
قال: قال: نعم، إن الله خلق سطيحا الغساني لحما على وضم، ولم يكن فيه عظم ولاعصب إلا الجمجمة والكفان، وكان يطوى من رجليه إلى ترقوته كما يطوى الثوب، ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه، فلما أراد الخروج إلى مكة حمل على وضمة، فأتي به مكة فخرج إليه أربعة من قريش:
عبد شمس، وهاشم ابنا عبد مناف بن قصي، والأحوص بن فهر، وعقيل بن أبي وقاص، فانتموا إلى غير نسبهم وقالوا: نحن أناس من جمح أتيناك بلغنا قدومك، فرأينا أن إتياننا إياك حق لك واجب علينا، وأهدى إليه عقيل صفيحة هندية، وصعدة ردينية، فوضعت على باب البيت الحرام، لينظروا أهل يراها سطيح أم لا.
فقال: يا عقيل ناولني يدك، فناوله يده فقال: يا عقيل والعالم الخفية، والغافر الخطية، والذمة الوفية، والكعبة المبنية، إنك للجائي بالهدية الصفيحة الهندية، والصعدة الردينية.
قالوا: صدقت يا سطيح. فقال: والآتي بالفرح، وقوس قزح، وسائر الفرح، واللطيم المنبطح، والنخل والرطب والبلح، إن الغراب حيث مر سنح، فأخبر أن القوم ليسوا من جمح، وإن نسبهم من قريش ذي البطح.
قالوا: صدقت يا سطيح نحن أهل البيت الحرام، أتيناك لنزورك لما بلغنا من علمك، فأخبرنا عما يكون في زماننا هذا، وما يكون بعده، فلعل أن يكون عندك في ذلك علم.
قال: الآن صدقتم، خذوا مني ومن إلهام الله إياي، أنتم يا معشر العرب في زمان الهرم، سواء بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشو من عقبكم ذوو فهم، يطلبون أنواع العلم، فيكسرون الصنم، ويبلغون الردم، ويقتلون العجم، يطلبون الغنم.
قالوا يا سطيح: فمن يكون أولئك؟
فقال لهم: والبيت ذي الأركان، والأمن والسكان، لينشؤن من عقبكم ولدان، يكسرون الأوثان، وينكرون عبادة الشيطان، ويوحدون الرحمن، وينشرون دين الديان، يشرفون البنيان، ويستفتون الفتيان.
قالوا: يا سطيح من نسل من يكون أولئك؟
قال: وأشرف الأشراف، والمفضي للأشراف، والمزعزع الأحقاف، والمضعف الأضعاف، لينشؤن الألاف من عبد شمس وعبد مناف، نشوءا يكون فيه اختلاف.
قالوا: يا سوءتاه يا سطيح مما تخبرنا من العلم بأمرهم، ومن أي بلد يخرج أولئك؟
فقال: والباقي الأبد، والبالغ الأمد، ليخرجن من ذا البلد فتى يهدي إلى الرشد، يرفض يغوث والفند، يبرأ من عبادة الضدد، يعبد ربا انفرد، ثم يتوفاه الله محمودا، من الأرض مفقودا، وفي السماء مشهودا.
ثم يلي أمره الصديق إذا قضى صدق، في رد الحقوق لا خرق ولا نزق.
ثم يلي أمره الحنيف، مجرب غطريف، ويترك قول العنيف، قد ضاف المضيف، وأحكم التحنيف.
ثم يلي أمره داعيا لأمره مجربا، فتجتمع له جموعا وعصبا، فيقتلونه نقمة عليه وغضبا، فيؤخذ الشيخ فيذبح أربا، فيقوم به رجال خطباء.
ثم يلي أمره الناصر يخلط الرأي برأي المناكر، يظهر في الأرض العساكر.
ثم يلي بعده ابنه، يأخذ جمعه، ويقل حمده، ويأخذ المال، ويأكل وحده، ويكثر المال بعقبه من بعده.
ثم يلي من بعده عدة ملوك، لا شك الدم فيهم مسفوك.
ثم بعدهم الصعلوك، يطويهم كطي الدرنوك، ثم يلي من بعده عظهور، يقضي الحق، ويدني مصر، يفتتح الأرض افتتاحا منكرا.
ثم يلي قصير القامة بظهره علامة يموت موتا وسلامة.
ثم يلي قليلا باكر، يترك الملك بائر، يلي أخوه بسنته سابر يختص بالأموال والمنابر.
ثم يلي من بعده أهوج صاحب دنيا، ونعيم مخلج، يتشاوره معاشر وذووه ينهوضون إليه يخلعونه، بأخذ الملك ويقتلونه.
ثم يلي أمره من بعده السابع، يترك الملك محلا ضائع بنوه في ملكه كالمشوه جامع، عند ذلك يطمع في الملك كل عريان.
ويلي أمره اللهفان يرضي نزارا جمع قحطان، إذا التقيا بدمشق جمعان بين بنيان ولبنان، يصنف اليمن يومئذ صنفان، صنف المشورة، وصنف المخذول، لا ترى الأحباء محلول، وأسيرا مغلول، بين القراب والخيول، عند ذلك تخرب المنازل، وتسلب الأرامل، وتسقط الحوامل، وتظهر الزلازل، وتطلب الخلافة وائل، فتغضب نزار، فتدنى العبيد والأشرار، وتقصي الأمثال والأخيار، وتغلو الأسعار في صفر الأصفار، يقتل كل حيا منه.
ثم يسيرون إلى خنادق وإنها ذات أشعار وأشجار، تصد له الأنهار، ويهزمهم أول النهار، تظهر الأخيار، فلا ينفعهم نوم ولا قرار، حتى يدخل مصرا من الأمصار، فيدركه القضاء والأقدار.
ثم يجيء الرماة تلف مشاة، لقتل الكماة، وأسر الحماة، وتهلك الغواة، هنالك يدرك في أعلى المياه. ثم يبور الدين، وتقلب الأمور، وتكفر الزبور، وتقطع الجسور، فلا يفلت إلا من كان في جزائر البحور، ثم تبور الحبوب، وتظهر الأعاريب، ليس فيهم معيب على أهل الفسوق والريب، في زمان عصيب، لو كان للقوم حيا وما تغني المنى.
قالوا: ثم ماذا يا سطيح؟
قال: ثم يظهر رجل من أهل اليمن كالشطن يذهب الله على رأسه الفتن. وهذا أثر غريب كتباه لغرابته وما تضمن من الفتن والملاحم. وقد تقدم قصة شق وسطيح مع ربيعة بن نصر ملك اليمن، وكيف بشر بوجود رسول الله ﷺ.
وكذلك تقدم قصة سطيح مع ابن أخته عبد المسيح حين أرسله ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، وذلك ليلة مولد الذي نسخ بشريعته سائر الأديان.
(تم الجزء الثاني من البداية والنهاية ويليه الجزء الثالث وأوله باب كيفية بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ.) [الجن: 6]
No comments:
Post a Comment